-A +A
شتيوي الغيثي
لكوننا دخلنا قبل أسبوعين في العام الهجري الجديد، فإن الذاكرة تعود كل سنة إلى الهجرة النبوية التي كانت مفصلا تاريخيا لنجاح دعوة الإسلام. ولعل أشهر قصيدة أو أبيات ترتبط بذلك الحدث هي: (طلع البدر علينا.. من ثنيات الوداع) حتى أصبحت أحد أشهر الأناشيد الإسلامية المغناة في العصر الحديث. في كتب السير يربط المؤرخون بين القصيدة وبين وصول النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ إلى المدينة عام الهجرة، لكن هذا الربط ليس ملسما به عند بعض الباحثين في المجال التاريخي والأحاديث النبوية، فالحافظ ابن حجر يضعفه من الأقدمين، كما أن الشيخ الألباني من المعاصرين يضعف الحديث الذي يرد به نص الأبيات. ويربطه بعض الإخباريين بعودة النبي وجيشه من غزوة تبوك، كما عند أحمد وأبي داوود والترمذي، معتمدين بذلك على الجغرافيا التضاريسية حيث أن ثنيات الوداع تقع إلى الجهة الشمالية من المدينة وليست على جهة مكة، إلا أن الأبيات المجهول قائلها اشتهرت في التاريخ الإسلامي كله على مر عصوره، وهي توصف كإحدى الأناشيد الإسلامية المغناة كما اعتمد عليها الغزالي في رأيه بالغناء.
أما اللحن الذي نعرفه عنها منذ الطفولة فمن الصعب أن ينتقل كما نسمعه، وفي حديث مع الباحث أحمد الواصل حول الصيغة الغنائية لـ«طلع البدر» أخبرني بأن لها صيغا صوفية تختلف عن الصيغة اللحنية المعروفة، لكنها لم تشتهر كما اشتهرت صيغتها الحالية. واللحن الجميل الذي نعرفه الآن هو من ألحان رياض السنباطي في الجزء الثاني من الثلاثية المقدسة: (مكة، المدينة، القدس) التي غنتها أم كلثوم، ويبدو أن اللحن استعير في المشهد السينمائي للهجرة في فيلم الرسالة الشهير للمخرج السوري مصطفى العقاد، ومنه انتشر للناس كما أتصور. ماذا تفيدنا هذه المعلومات؟ ثلاثة أمور:الأول: عدم التسليم بكل ما نقل حتى لو كان مشهورا. الثاني: سعة الفكر الإسلامي الذي نقل لنا حتى الأغنيات، فيما لو أردنا البحث عن مواطن التسامح وليس التشدد التي بالتأكيد سنجد الكثير منها مثله مثل أي تاريخ فيه من الصفحات البيضاء بقدر ما فيه من صفحات سوداء على اختلاف النسبة بينهما. الثالث: أن الفن يخترق الزمان والمكان ولا يحفل بالتضييق.