كثر التعليق مؤخرا حول سياسات الولايات المتحدة الأمريكية تجاه العديد من الأحداث على الصعد العالمية، وحتى يتسنى لنا محاولة معرفة أسباب ذلك، لا بد من الرجوع إلى التاريخ المعاصر، وكما أشار العديد من المؤرخين والكتاب من أن التاريخ ليس فقط لاستقراء العبر والوقوف على الأحداث، بل ومما لا شك فيه هو من أهم روافد كشف الواقع ومحاولة النظر إلى المستقبل إن شاء الله.
وأعود إلى سنوات عديدة عندما كنت أدرس في جامعة بورتلند الحكومية للحصول على درجة الماجستير بأمريكا، وكان موضوع الرسالة هو الأحداث التي أدت إلى نشوء حلف شمال الأطلنطي، كما اقتضى الرجوع إلى التاريخ لمعرفة الأسباب ولمحاولة إيجاد الحلول والفهم للحاضر..
وكنت قد بدأت رسالتي للماجستير تلك بواقعة حدثت في واشنطن دي سي.. حيث، وبعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية أبلغت بريطانيا أمريكا في ذلك الوقت عن طريق أحد المسؤولين البريطانيين من أن بريطانيا لم تعد قادرة على الإمساك بزمام الأمور عالميا وأن على الولايات المتحدة أن تحل محلها للحفاظ على مكاسب العالم الحر والحفاظ على المصالح الحيوية والاستراتيجية للغرب، وفي ذلك الوقت أيضا، لمواجهة الاتحاد السوفيتي «المنتصر» الذي زادت شهيته السياسية باستيلائه على العديد من دول أوروبا الشرقية بعيد الحرب العالمية الثانية.
ونعود مرة ثانية لأمريكا، فلقد حرص قادة ومفكرو أمريكا الأوائل على أن تكون أمريكا دولة زراعية وصناعية عظمى ومتفوقة ومتطورة تقنيا، وقوية عسكريا، وحرصت على أن لا تتدخل في ما يدور حولها في العالم عدا دول أمريكا الجنوبية التي كانت تعتبر تلك الدول الفناء الخلفي لأمريكا.. ومرت الحرب العالمية الأولى ولم تتدخل أمريكا محافظة بذلك على «سياسة العزلة» التي انتهجتها.. لم تتدخل كذلك في الحرب العالمية الثانية إلا بعد قصف بيرل هاربر عام 1941 وأعلنت الأخيرة الحرب على اليابان ويعد ذلك التاريخ بمثابة خروج أمريكا عن نهج سياسة العزلة وبدأت بنشاط وقوة في التدخل والسيطرة على زمام الأمور عالميا..
ثم بعد ذلك تدخلت في الحرب الكورية وبعد عدة سنوات كان أكبر تدخل خارجي عسكري وسياسي لأمريكا في تاريخها حرب فيتنام التي أضحت تمثل هاجسا عظيما لأمريكا لدى صناع القرار والشعب الأمريكي لسنوات طويلة وحتى الآن والزمن قادم.. بعد ذلك كانت مشاركة الولايات المتحدة مع العديد من الدول في تحالف دول لإخراج صدام حسين من الكويت بعد احتلاله لها، وبالطبع كانت مشاركة أمريكا العنصر الأساسي الجوهري الفاعل في إخراج صدام من الكويت وكذلك البنية الأساسية العسكرية للمملكة العربية السعودية وقرارها السياسي للمشاركة..
ثم حدث بعد ذلك في عام 2001 الحدث الأعظم في تاريخ أمريكا المعاصر، الذي ما زال العالم يعاني تبعاته، وهو تدمير برجي التجارة في نيويورك والذي يعد الاعتداء الثاني على أمريكا بعد بيرل هاربر، ولكن كان الهجوم الإرهابي الدنيء على نيويورك أشد وطأة وإيلاما وذكرى، ليس فقط لأمريكا والشعب الأمريكي فحسب، ولكن أيضا لدول وشعوب كثيرة..
وبعد ذلك بسنوات - عام 2003 - تم غزو أمريكا للعراق والذي سبقه التدخل الهائل في أفغانستان سعيا لتدمير جماعة القاعدة لمسؤوليتها عن الهجوم على برجي التجارة في نيويورك..
وأنا هنا عندما أسرد العديد من الأحداث فإنني أقوم بعملية اختزال للمعلومات، حيث إن الهدف هنا ليس التسليط على تلك الأحداث في حد ذاتها، ولكن لاستخدامها وأدلل بها على ما سيلي ذلك لمواقف أمريكا السياسية مؤخرا في الشرق الأوسط وبالتحديد منذ ما يقارب العامين..
بإيجاز شديد، فإن الولايات المتحدة ترى، وهذا حقها، أن أفضل النظم السياسية هي تلك التي تحاكي النظام الديمقراطي الغربي الأمريكي، ومن خلال ما يسمى بحركات وثورات الربيع العربي، ولعلنا اكتشفنا الآن بأن هذا المسمى لا يطابق الواقع، دعمت أمريكا ذلك التغير نحو تعزيز الديمقراطية في المنطقة على الطراز الغربي، ولذا هي تبذل الجهد كل الجهد في ذلك حيث إن لديها القناعة بأن ذلك سيزيل بؤر التوتر والتطرف في تلك الدول.. وأنا هنا لا أريد التوسع في الموضوع وأود الإشارة إلى أن الحكومات الرشيدة التي تعطي لشعوبها الحريات الأساسية وحرية تنقل الأموال واعتناق الاقتصاد الحر والحفاظ على العرض والمال وكل الأساسيات التي يحرص عليها الإنسان لحياة كريمة حرة هي في تقديري البديل الأمثل والأفضل للنظام الديمقراطي المبتغى من قبل أمريكا، ولعل قادم الأيام تثبت صدق هذه الرؤية.. ولعل ما حدث ويحدث في سوريا ومصر وليبيا واليمن وتونس يدلل على ما ذهبت إليه آنفا..
ونعود مرة أخرى للحراك السياسي والعسكري في منطقتنا، حيث انسحبت أمريكا من العراق والكل يشاهد ويعلم ما نتج عن ذلك من آثار خطيرة، ومدمرة على العراق..
وتستعد أمريكا للانسحاب من أفغانستان بشكل مرحلي وإنني على يقين أن ما يحدث في العراق سنشاهد أحداثا أقسى وأشد بكثير مما يحدث في العراق في أفغانستان بعيد انسحاب الولايات المتحدة وربما يعيش العالم مرة ثانية سيطرة طالبان على تلك الدولة بل ولربما نرى دولة طالبان بها..
ولعل سياسات وتوجهات ومواقف أمريكا في سوريا منذ بداية الأحداث الدموية والحرب الدائرة بين المعارضة والنظام، ثم موقفها التفاوضي المؤيد للوصول إلى اتفاق مع إيران بشأن نشاطها النووي هي والدول الخمس في مجلس الأمن - عدا الصين - ومع ألمانيا وبشكل غير ذي سابقة، أعطى مدلولات ومؤشرات غير مألوفة في سياسة أمريكا في منطقتنا، وإذا ما حاولنا سبر أغوار تلك التحركات والسياسات الأمريكية الأخيرة نقرأ منها قراءة أولية بأن الولايات المتحدة تعود وبشكل تدريجي لسياسة العزلة التي سبق وأن انتهجتها لقرون بعد الاستقلال وكذلك لا تريد التدخل عسكريا في الخارج بعد العراق وأفغانستان وبالطبع فيتنام والذي ترك «عقدة سياسية عسكرية» ما زالت في وجدان، وستظل، الفكر الأمريكي لحقبة طويلة قادمة. ولعلنا لا ننسى ما تكبدته أمريكا من فقدان لمزيد من العنصر البشري الأمريكي في تلك الحروب.
وإن التحول الواضح في سياسات الولايات المتحدة في المنطقة العربية الإسلامية يمكن أن ننظر إليه من قراءة ثانية أن هنالك بداية تحولات سياسية في الفكر السياسي الأمريكي - تحول استراتيجي تدريجي - ربما لإعادة تقسيم ميزان القوى في المنطقة لأن هذا من منظورها سيساعد في القضاء على التطرف الفكري والعنف والإرهاب.. وهي لا تدرك، ربما، أن ذلك سيؤدي إلى خلق المزيد من العنف والتطرف.
ومرة أخرى نقول إن الولايات المتحدة ومنذ أن تولت زمام الأمور عالميا بعد الحرب العالمية الثانية مرورا بالعديد من النزاعات العسكرية المسلحة التي أشرنا إليها من قبل وخصوصا ما حدث في نيويورك يوم 11 سبتمبر 2001 قد غير العالم الذي كنا نعرفه قبل هذا التاريخ إلى الأبد. كل تلك الأمور والأحداث المتلاحقة والتي تكبدت أمريكا خلالها الكثير الكثير من الخسائر المادية والبشرية قد يكون الدافع الذي جعلها تعيد النظر في سياساتها الخارجية نحو العزلة واللجوء إلى سياسة الحوار والتفاوض عوضا عن الدخول في حروب ونزاعات مسلحة - وهي غير مكترثة بنتائج مثل هذا التغير في سياستها بسبب قوتها العاتية ولكنها من جهة أخرى سوف تؤثر حتما على أمريكا إن آجلا أم في القريب..
ولعل من المفيد - في ذات السياق - مشاركة القارئ في معلومة تاريخية ذات علاقة بما يحدث من تغيير في سياسات أمريكا، وهي العلاقة بين السلطة التشريعية - الكونجرس في أمريكا وبين السلطة التنفيذية - رئيس الجمهورية - وتناوب فترات السمو والقوة بينهما في حقب تاريخية مختلفة، والذي يعنينا هنا هو التاريخ المعاصر .. ويمكن لدارس ومتابع التاريخ السياسي الأمريكي أن يخلط بأن السلطة التنفيذية - الرئيس كانت في غاية القوة قبيل وأثناء وبعد الحرب العالمية الثانية - حتى أنه تمت إعادة انتخاب الرئيس روزفلت لأربع مرات متتالية، الأمر الذي أدى بالمشرعين والرأي العام الأمريكي خاصة - والذي لا يثق في السلطة والسلطات لآجال طويلة - إلى تغيير الدستور الأمريكي، وفيما يتعلق بمدة تولي الرئيس الحكم وتحديدها بفترتين فقط كل فترة مدتها أربع سنوات.. وبعد وفاة الرئيس روزفلت، تولى الرئيس ترومان الذي خرج بأمريكا منتصرة في الحرب العالمية الثانية، وكانت السلطة التنفيذية، حينذاك، في أوج قوتها ثم مرت سنوات قليلة حتى تولى الرئيس ايزنهاور رئاسة الولايات المتحدة واستمرت السلطة التنفيذية في سموها حتى عهد الرئيس الجمهوري رتشارد نيكسون، حيث كانت السلطة التنفيذية في عهده في أوج قوتها ولكن بعد فضيحة «ووتر جيت» وخروج الرئيس نيكسون من الحكم بدأت السلطة التنفيذية مرحلة الضعف النسبي وعدم الفعالية وحلت السلطة التشريعية من حيث القوة والفعالية والتأثير في الهيمنة على السياسات الداخلية والخارجية..
ولذا يمكن القول إن حقبة الرئيس الحالي أوباما هي حقبة رئيس غير قوي ويشاركه بل وينافسه في الحكم السلطة التشريعية وبشكل فاعل - وهذا عكس ما أراد الرواد الأوائل واضعو الدستور وإعلان الاستقلال من الفصل بين السلطات والمراقبة والتوازن بين السلطات..
ومن يلاحظ التحركات السياسية في المنطقة الآن يدرك أن هناك تحولا والسعي نحو التغيير في الجغرافيا السياسية لمنطقة الشرق الأوسط والدول الإسلامية المحيطة والقريبة منا، ومنه أنه منذ عزل الرئيس مبارك وما تلا ذلك من أحداث متلاحقة عنيفة، بدأت بوادر التغيير في المنطقة وهذا في تقديري موضوع هام يحتاج إلى مقال منفرد نتناول فيه بوادر ودوافع «التغيرات الجيوبولتيك» أو على الأقل محاولة إحداث ذلك التغيير.. وفي نهاية مقالي هذا لا بد أن أشير إلى حضور ومكانة ونفوذ وحكمة القيادة السعودية ومن أن المملكة ومصر هما اللاعب الأساسي في المنطقة المحيطة وما يليها.