-A +A
شوقي بزيع
لطالما بدت صورة الشاعر في أذهان الناس مشوشة ومرتبكة ومحكومة بالكثير من المفارقات. فالشعر عند البعض هو نوع من المس الذي يخالط العقول ويؤدي إلى الانفصال التام بين الشاعر ومحيطه. وهي صورة ترسخت في الذهن العربي بوجه خاص منذ ارتبط الشعراء بشياطين وادي عبقر قبل أربعة عشر قرنا ونيف من الزمن. والشعر عند البعض الآخر مجرد هذر مجاني أو ترف لغوي فائض عن الحاجة، باعتباره لا يقدم أو يؤخر في أوضاع الناس وهمومهم الفعلية. والطريف في الأمر أن الكثير من السياسيين يستثمرون هذه الفكرة بشكل سلبي، فيصفون كل كلام لا يعجبهم ولا يوافق أهواءهم بالقول: «هذا مجرد شعر»، أو يرد بعضهم على مساجله السياسي بالقول باللهجة المحكية: «ما تحكيني شعر». هكذا يبدو الشعر في العالم العربي نقيضا للحياة الواقعية من جهة، وللسياسة بوصفها نشاطا «رصينا» ورؤية براغماتية للواقع المعيش من جهة أخرى. وهو أمر ينسحب بتفاوت على الفنون المختلفة. ورغم أن الشاعر لا يزال يحظى بمكانة معنوية لا بأس بها في المجتمع العربي، إلا أن أحدا لا يريده خارج مملكة الكلمات، ولا يجد له دورا فاعلا في المجالين السياسي والاجتماعي. يكفي أن نمعن النظر قليلا في المشهد السياسي العربي لكي نتأكد من أن الحكومات والبرلمانات العربية برمتها تكاد تخلو من الشعراء والفنانين. والاستثناءات القليلة التي تبرز للعيان في هذا البلد العربي أو ذاك لا تكسر القاعدة بأي حال. على أن هذه الرؤية الملتبسة إلى الشعراء لا تقتصر على العرب وحدهم، بل تكاد تلتصق باللاوعي الجمعي لشعوب العالم المختلفة. فالكاتب الإسباني ساراماغو يعبر عن الأمر خير تعبير، فيرى أن الشاعر في عرف الجماعة هو من لا يتقن شيئاً آخر سوى الاشتغال باللغة. فما ينتجه الشاعر لا يصلح للأكل والشرب والملبس، وغير ذلك مما يسد حاجات الناس ويخفف من معاناتهم اليومية المباشرة. أما الشاعر الروسي الحائز على جائزة نوبل جوزف برودسكي فقد عبر عن مأزق الشاعر داخل مجتمعه بالقول إنه كان خلال أسفاره يشعر بالحرج والارتباك لدى تعبئة الخانة المتصلة بمهنته على البطاقات المخصصة لأجهزة الأمن في المطارات. وقد وجد المخرج أخيرا في استبدال كلمة «شاعر» بكلمة «كاتب»؛ لأن الأولى تشير إلى شخص عاطل عن العمل بشكل أو بآخر، فيما تمتلك الثانية محسوسية نسبية تتصل بالصحافة وغيرها من الوظائف. إلا أن كل ذلك الالتباس في موقع الشاعر وهويته لم يمنع العرب من التهافت المحموم على امتلاك اللقب. ومن يتصفح مواقع التواصل الاجتماعي في هذه الأيام سيلفته أن الأسماء المسبوقة بلقب «شاعر» تعد بعشرات الآلاف، بحيث يبدو الاكتفاء بتذوق الشعر وقراءته نقيصة غير محمودة، ومدعاة لشعور ممض بألم الطرد من فردوس اللغة الرمزي.