-A +A
بقلم : رحيل
لقد أكد البلاغيون والنقاد على أن تواجد ثلاثة عناصر مهمة في النص الأدبي تكفل له التكامل الفني وهذه العناصر حسب قولهم هي: براعة الاستهلال وحسن التخلص من تعرض إلى آخر في النص وحسن الخاتمة..
مايهمني هنا منها هو الاستهلال وإني إذ أركز عليه وعلى مقياس جودته وبراعته وامنحه اهتمامي؛ لما أقرأ من نصوص باتت تفتقد للاستهلالية.. فقلة هم الذين يهبون الاستهلال أهمية أو يمنحونه مكانة.. وكثر أولئك الذين يهمشونه أو يغفلونه أو بالأحرى يجهلونه..

وقد يحصل أن تأتيك القصيدة أو النص الأدبي مجموعة من الجمل المتواترة المعطوف بعضها على بعض فلا أنت تعرف أولها من آخرها ولاتميز آخرها من أوسطها.. فتتيه في معمعة النص وتبدأه قبل أن يشير إليك ببداية وتنهيه قبل أن تدرك نهايته أو تعيها..
إذن الاستهلالية ليست ركناً من أركان كمال النص الأدبي فحسب بل هي فنٌ أدبي له أبعاده وآثاره وانعكاساته على النص.. ولعل شيئاً من هذه الآثار تظهر بتوضيح أنواع هذه الاستهلاليات.. ولعلي أطبقها هنا على أكثر النصوص الأدبية رواجاً وشيوعاً وهو النص الشعري.. فنسبة ليست بقليلة استفتحت قصائدها بـ «السلام».. وجعلت من إلقاء التحية مثالاً ظاهراً حياً يدلل على الاستهلالية.. ولعلها أرادت به «تحقيق سنة» واتباع أثر وجذب أسماع..
وهذا النوع من الاستهلاليات لايتمتع بجمالية ذات أفق إلا أنه يشي في أذن القارئ أو السامع أن صاحبه يريد أن يقول شيئاً ما.. يريد أن ينقل رسالة معينة.. وقد تتوفر الحالة الجمالية المغايرة في هذا النوع إذا ماحصل التقديم والتأخير النحوي..
الشاعر خلف بن هذال يعتمد على هذا النوع من الاستهلالية في قصيدته التي يتغنى فيها بحب الكويت بقوله:
سلام الله على شعب وحكومة وومرا وأمير
على جابر وابن عمه سعد والحفل وضيوفه
وهنا كانت التعدادية في ذكر المخاطبين بالتحية وسيلة لشد انتباههم وهو أهم أهداف الاستهلالية وهو الملاحظ في البيتين أعلاه..
ايضاً يقول الشاعر عطاالله القارحي في قصيدة له بعنوان (دور الشعر):
سلام في أول بدايه والبداية السلام
سلام ياديرة أهل الجود وأهل الكرم
سلام ياأبها سلام انكرره كل عام
انكرره كل عام ان كان ربي قسم
هنا ايضاً لامغايرة جمالية تلفت النظر لكن الاستهلالية الممثلة بالسلام جاءت لتوكيد سنة بدليل قوله (والبداية السلام) وكأنه لايتصور اكتمال البدايه بدون السلام..
الجدير بالذكر أن الاستهلالية المتمثلة بالسلام عادةً ماتكثر في النصوص التي تأخذ طابع الإلقاء على مسامع فئة معينة..
فالابتداء بمصافحة الجموع بقصيدة استهلاليتها بالسلام يوقع في نفس الحاضر أو المستمع شيئا من الطمأنينة.
و يضاف لما سبق من استهلاليات «التحية» ماينساق منها بطريقة مغايرة للمألوف.. وبذلك تكون جودتها قادرة على منح الشاعر تذكرة للولوج في ذاكرة القارئ أو المستمع.. فمن منا ينسى أمسية الأمير عبدالرحمن بن مساعد حين افتتحها بقصيدة اشتملت استهلاليتها على المصافحة المسائية أو التحية المسائية بقول:
مساء الخير والإحساس والطيبة
مساءٍ مايليق  إلا  بأحبابي
مساء غير غصن لطير يحكي به
عن اللي مسكنه جفني واهدابي
التحية هنا جاءت مغايرة وانساقت لمستمع منح بهذه القصيدة أجمل التحايا.. فتخصيص التحية والاستثنائية التي وردت بقوله(مايليق إلا بأحبابي) منحت البيت بروقا قادرة على الإضاءة في عقل المستمع.. وعلى التشبث به حتى النقطة الأخيرة من القصيدة..
وهناك نوعٌ ثانٍ من الاستهلاليات وهو ذلك الذي يجيء ليكون توطئة للنص ومفسرا لعنوان النص.. ومن المعروف أن أول ماتقع عين القارئ عليه هو العنوان وكلما جاء العنوان بطريقة غير تقليدية تحتاج لتفسير كان النص بذلك أكثر عوزاً وحاجة للاستهلالية...وقلة أولئك الذين يجعلون من العنوان وسيلة لجذب وشد المستمع والقارئ.. من أمثلة هذه الاستهلالات قول الشاعر عبدالله الطلحي في أول قصيدته المعنونه بـ(الموت الحمر)
كنت أقول الصبر لأهل النفوس اللي كبار
وإن قلبي في المواقيف أشد من الصخر
مايسبب لي فراق المواليف انهيار
مادريت إن المفارق هو الموت الحمر
فالبداية هنا في هذه القصيدة التي كنت قد وقفت عليها «قراءةً ودراسة».. يوضح كيف يمكن أن يصنع الشاعر من قصيدته “مدرجاً” حتى ينقل قارئه إلى المشهد الشعري بهوادة...فالبدء بذكر المعتقدات الماضية ووصولاً إلى المفاجأة منح الاستهلالية مزيداً من التمهيد...والتمهيد يختلف عن الاستهلال... حيث يعني الثاني _أي التمهيد_ أن أجهز القارئ لنصي الأدبي.. والتجهيز عادةً لايكون إلا بالتدرج في عرض القصيدة.. رويداً رويداً حتى أكشف عن المشهد الشعري كاملاً بكل تفاصليه.
الاستهلاليات وهي تلك التي تأتي حاملةً صوراً جمالية راقية وقادرة على فتح أبواب الإصغاء وقرع نوافذ المتابعة...وذلك لما تحمل من صور ولما تحوي من تساؤلات قادرة على شد أغصان الانتباه. فقد يحصل أن يكون الاستهلال صورة جمالية ملتفة حول مجموعة من التساؤلات التي تقدح شرارة المتابعة في ذهن القارئ.. وهذا يحصل في حال كانت القصيدة محاكاةً لموقف معين.. ومثل هذا يظهر لدى الكثير من الشعراء وفي الكثير من القصائد.. لنقف مثلاً عند تلك التساؤلات والحالات المتقاربة التي يحكي عنها الشاعر فيحان الويباري في قوله :
رحتي ..  ولا ادري ..  صار شي يشبه فراق
وغفيت مدري نمت .. او هو ذهولي ؟!
وصحيت وجه الحلم.. ولقيت اوراق؟!
تشبه لأوراق الخريف وذبولي!!
الابتداء بذكر الحدث وهو (رحتي) وإلحاقه بالشعور يظل هو الأسلم.. على عكس لو بدأ بذكر الشعور ثم ألحقه بالفعل ففي الثانية سيكون هناك اختلال بالسياق.
والحالات المتواترة(غفيت / نمت / ذهولي) والتي ما استطاع أن يجد لها إجابةً تقريرية مؤكدة تحث السامع والقارئ بالتأكيد على التنقل فيما بينها بحثاً عن تأكيد لوقوع أحدها.
والانتقالية ايضاً من (غفيت / نمت / ذهولي).. وإلى (صحيت) انسيابية رائعة في الحدث.. وقدرة على الموازنة بين الأفعال..
- للشاعر ايضاً /عايض بن مساعد قدرة على “إيقاظ” الدهشة بقوله في أحدى قصائده المنتسبة للروعة:
تدرين وش معنى الوله؟؟
تحب من تعجز تجيه وتوصله
فهذا التساؤل بما يحمل من رومانتيكية حالمة كان قادراً على إحداث فعل التشويق لدى القارئ أو المستمع..
وهذا النوع من الاستهلاليات المطرز بالصور والمصحوب بالتساؤلات يتكدس بشكل جميل في قصائد الشاعر/خالد المسعودي لنقرأ مثلاً قوله:
وينك طفى الليل و الصوت و قضى الدفتر
وينك عرق دربي وداخت مشاويري
(وينك) الغارقة في العفوية والحاضرة مراراً جاءت كاستهلالية فائقة الروعة.. خصوصاً أن هذه الكلمة بمثابة تساؤل يفتح آفاقا رحبة للإجابة..
من هنا أستطيع أن أخلص إلى أن الاستهلالية هي أبرز مكونات القصيدة وتظل هي «عمدة» القصيدة وكلما جاءت مغايرةً وخارجة عن نطاق المألوف.. أصبحت الذاكرة موشومةً بها وباسم قائلها.