ما إن أنهينا جولتنا في المدن الصناعية في جدة ولقاءنا مع مدير هيئة المدن الصناعية ومراكز التقنية الدكتور توفيق بن فوزان الربيعة، إلا وبدأت الدائرة تتوسع ويتضح لنا أن هموم الصناعة في المملكة ليست بنية تحتية ومدن صناعية مهترئة، وبعضها لا تجد من يبني فيها مصنعا واحدا، وبعضها حديثة.. مجرد قطعة أرض صحراوية في أطراف المدينة، يعتقد بعض سكانها أنها مخططات ستخصص للمنح السكنية.. انتهت أعمال الطرق فيها والسفلتة ولم تكتمل بقية الخدمات فيها، وإنما هناك معوقات ومشكلات أخرى تقف حجر عثرة في طريق النمو الصناعي للمملكة.
انهالت علينا الأسئلة من كل صوب هذا يقول: لماذا لم تطرح الأسئلة عن حائل، وآخر يتحدث عن أبها، وثالث عن جازان، ورابع عن تبوك والمدينة المنورة، مذكرين بالمزايا النسبية لمناطقهم التي يمكن استغلالها وقيام صناعات متقدمة فيها، تجسد رؤية خادم الحرمين نحو استراتيجية صناعية تنهض بالمناطق الأقل نموا، الأمر الذي جعل «عكاظ» تعيد فتح ملف واقع الصناعة في المملكة بتوسع، وخصوصا واقع الصناعات التحويلية التي يتعامل معها المستهلك العادي كمنتج نهائي يدخل في حياته اليومية، وهو يشاهد أن معظم ما يباع في الأسواق سلع تأتيه من الخارج، ويجعل الكثيرين يتساءلون: أين صناعاتنا الوطنية بعد أن قطعت المملكة شوطا كبيرا في الصناعات الأساسية وأصبحت من أكبر الدول المصدرة للمواد الأولية التي تباع لنا مرة أخرى كمنتجات نهائية بأضعاف سعرها وفي النهاية نحن من يخسر.
وعند الحديث مع المختصين من الصناعيين كانت الإجابة مؤلمة لأن واقع الصناعة السعودية اليوم لا يتماشي مع كوننا لا ينقصنا معظم المواد الأولية، خاصة ما يعتمد على النفط منها، مشيرين إلى أن المصانع التي أنشئت منذ بداية الصناعة في عام 1373هـ تقريبا أي قبل 60 عاما، لم تتقدم كثيرا أسوة بالصناعة في دول كانت في ذلك الحين مستعمرات خاصة في شرق آسيا غزتنا منتجاتها الرديئة.
ولأن المدن الصناعية في مناطق المملكة هي الأساس الذي تنطلق منه التنمية الصناعية، كان علينا أن نبحث عن أحوال تلك المدن لمعرفة حالة الصناعة لدينا، ومدى قدرة المصانع على تحقيق الإستراتيجية الصناعية التي وضعتها الدولة، وبحث المعوقات التي تعترض سبيل انطلاق المصانع والصناعيين.
اللافت أننا حينما بحثنا هذا الأمر مع عدد من الصناعيين، وكان سؤالنا الأساس لهم «ما الصعوبات والمعوقات التي تواجه الصناعة السعودية؟»
فوجئنا بقائمة من الصعوبات لها بداية ولكن لم نستطع الوقوف على نهايتها، بدءا من البنية التحتية المتردية في المدن الصناعية، طول الدورة الإجرائية المطلوبة للحصول على التراخيص اللازمة لكثرة الاشتراطات، ضعف الدعم، خصوصا للمصانع الصغيرة والمتوسطة، وصعوبة الحصول على تمويل من البنوك لكثرة الاشتراطات المطلوب توافرها للرهون، صعوبة الحصول على عمالة.
ولفت الصناعيون إلى أنه رغم كثرة المعوقات فإن الصادرات السعودية غير البترولية، ومعظمها منتجات صناعية استطاعت، وفقا لتقديرات مؤسسة النقد العربي السعودي «ساما»، أن تصل قيمتها في العام 2010 م إلى 124 مليار ريال، بزيادة نسبتها 14 في المائة عن العام السابق.
البداية من مكة
ولأن الصناعة في مكة المكرمة قديمة جدا وليست حديثة عهد فبدأت منذ القدم بالصناعات اليدوية الحرفية والتي اشتهر بها أهالي مكة ولها سوق كبيرة وطلب عليها خصوصا من الحجاج والمعتمرين الذين يبحثون عن كل ما هو مصنوع في مكة، ليكون تذكارا يحتفظون به ويورثونه لأبنائهم جيلا بعد جيل، كانت انطلاقة التحقيق من المدينة الصناعية في مكة المكرمة والتي تعتبر من أصغر المدن الصناعية في المملكة، ويشتكي معظم الصناعيين فيها من قلة الأراضي ومن أن المصانع في المدينة الصناعية ذات مساحات صغيرة لتتماشى مع بعض الصناعات التي تحتاج لمساحات كبيرة خصوصا.
وأضاف الصناعيون «سبق وأن أعلن عن مدينة صناعية تخدم مكة المكرمة وجدة بمساحة 50 مليون متر مربع.. أين هذه الأرض؟ هل ما زالت حبيسة الأدراج؟»
مدينة الهدوء
انطلقنا إلى المدينة الصناعية الأولى في مكة المكرمة التي أنشئت منذ 32 عاما، أدهشنا الهدوء الذي يخيم على المكان، توقعنا أن نشاهد حركة كثيفة للمركبات وسيارات الشحن الداخلة والخارجة من وإلى المصانع التي تكون محملة بالمواد الخام أو بالإنتاج، خصوصا وأن الموقع الرسمي لهيئة المدن الصناعية ومراكز التقنية يذكر أن هناك 60 مصنعا منتجا يعمل فيها حوالى 3000 عامل، وهو الأمر الذي يتنافى مع ما ذكره رئيس اللجنة الصناعية في الغرفة التجارية الصناعية في مكة المكرمة هشام السيد من أن عدد المصانع العاملة في المدينة الصناعية في مكة 39 مصنعا وخارج المدينة 65 مصنعا.
مساحات صغيرة
توجهنا مباشرة لأحد المصانع التي سمعنا فيها حركة.. طرقنا الباب وسألنا عن مدير المصنع أو صاحبه.. التقينا إبراهيم بخش صاحب المصنع، الذي أخبرنا أنهم يعملون في تصنيع بعض القطع المعدنية التي تستخدم في محركات السيارات وتستخدم غالبا من قبل «المخارط» تدخل في توضيب السيارات، سألناه عن سر الهدوء الذي يعم المدينة، قال: إن المدينة صغيرة وعدد المصانع فيها محدود، مرجعا ذلك لعدم وجود مساحات كافية لإنشاء مصانع جديدة، مضيفا أن معظم المصانع الموجودة هي مساحات صغيرة وأشبه ما تكون بورش أكثر من كونها مصانع منتجة.
المنطقة الخلفية بدون خدمات
رأينا أعمدة إنارة وأغطية الصرف الصحي، توقعنا أن الخدمات متوافرة لديكم، أجاب أنها لا تعمل فنحن في المنطقة الخلفية ودائما المناطق الخلفية لا يهتم بها، مضيفا استبشرنا بتركيب أعمدة الإنارة وتمديد خدمات الصرف لكن منذ ذلك الحين والإنارة لا تضيء في الليل وخدمات الصرف لم يتم إيصالها لنا.
دعم الشباب
وعند سؤالنا عن قلة الحركة في المدينة التي يفترض فيها أن تكون في أوجها، خصوصا ونحن في منتصف النهار، أجاب أن عدد العاملين في المصانع «الورش» قليل؛ لأنها لا تتحمل أعداد عمالة كبيرة وعدد العاملين يتماشى مع المنتجات التي تنتجها هذه المصانع والتي في مجملها مصانع لبعض المعجنات والحلويات ومصنع أو مصنعين للدهانات، وفي مجملها صناعات خفيفة تغطي أسواق مكة المكرمة وجدة.
هيئة إسلامية داخل الصناعية
لفت انتباهنا ونحن نتجول في المدينة مبنى تبدو عليه آثار القدم وأنه مهجور.. وجدنا بابه مفتوحا قلت لزميلي «لا مفر من الدخول»، بعد أن دخلت المبنى وجدته تابعا لرابطة العالم الإسلامي ويحوي موظفين في الهيئة الإسلامية العالمية للعلوم والثقافة وهو ما جعلني أتساءل: لماذا هذا المبنى وسط المدينة الصناعية، وصناعيو مكة يشتكون من عدم وجود مساحات مخصصة لهم، الأمر الذي اضطر بعضهم لشراء مواقع في بحرة أو حدة لإقامة مصانعهم عليها.
أندية وجمعيات
أثناء تجولنا في المدينة لفت انتباهنا وجود صالة رياضية وجمعية خيرية تشغل مساحة لا بأس بها، رغم أن اللجنة الصناعية تشكو من عدم وجود المساحات المخصصة للمصانع ويطالبون بإيجاد مدينة صناعية جديدة.
مصانع بدون خدمات
لفت انتباهنا مجموعة مشيدة بشكل مختلف عن بقية المصانع من حيث البناء ووجود عيادة طبية، رغم أن هذه المصانع لا تبعد عن مستشفى حراء العام أكثر من عشرة أمتار سعة الطريق الفاصل بينها وبين المستشفى، ولجنا المصنع التقينا صاحبه إبراهيم عوضة الشدوي الذي فجر مفاجأة أذهلتنا، قائلا «إن المصانع لا تعمل بطاقتها الكاملة بسبب عدم توافر الكهرباء والخدمات، مثل الصرف الصحي»، عند الاستفسار عن الأسباب، قال «اسألوا مدير المدينة الصناعية سعد الحميد، الذي رفض منحنا خطابات للجهات التي توصل لنا الخدمات».
محاربة الصناعة
وأضاف «إن القصة بدأت عندما تلقينا خطابا من مدير المدينة الصناعية في مكة المكرمة المهندس سعد بن سليمان الحميد، يحمل إخطارا بفسخ العقد وتسليم الأرض المؤجرة لنا خالية من كل شاغل، وينص على أن العقد الموقع معنا بتاريخ 17/8/1429هـ، الخاص باستئجار قطعة الأرض رقم ج 16 بمساحة 3456 مترا مربعا والمرخص لنا بإقامة مصنع فيها.
وأشار الشدوي إلى أن الحميد علل هذا القرار بـ «أننا غير ملتزمين بشروط وبنود عقد الإيجار بالتوقف عن إنشاء وتنفيذ المصنع الذي تم من أجله تأجيرنا الأرض، وبناء على هذه الأسباب اتخذ قرار إداري صادر عن الهيئة السعودية للمدن الصناعية ومناطق التقنية برقم (212/ق/م عام 1428هـ)، يقضي بفسخ العقد المشار إليه وإخلالنا بشروط العقد وإعادتها إلى الهيئة خالية من كل شاغل مع تحمل الإيجارات المستحقة حتى تسليم الأرض.
واستطرد الشدوي وعلامات التأثر تبدو عليه «تخيلوا أن مدير المدينة الصناعية في مكة المكرمة الذي كنا نأمل منه الدعم يتوعدنا بأنه في حال عدم إخلائنا الأرض وتسليمها لإدارة المدينة الصناعية خالية من أي شاغل خلال المهلة المحددة، فإن للهيئة ممثلة في إدارة المدينة الصناعية، التصرف في قطعة الأرض وما عليها من منشآت وليس لكم حق الاعتراض أو المطالبة بأي تعويض بعد انتهاء المهلة المحددة.»
رفض إطلاق التيار
ويرى الشدوي أن تصرف مدير المدينة الصناعية في مكة يخالف أهم القواعد التي من أجلها أنشئت هيئة المدن الصناعية ألا وهو السعي لدعم الاقتصاد الوطني بتوفير الحوافز للصناعة المحلية، وتوطين التقنية وتأهيل الشباب السعودي، وكيف يفسر لنا الحميد مبدأ هيئة المدن المتمثل في الاهتمام والعناية الذي تقدمه هيئة المدن بعملائها والسعي بجهد دؤوب لرفع جودة الخدمة المقدمة، وهو يرفض أعطاءنا خطابا لإطلاق التيار الكهربائي الذي يمكننا من تشغيل خطوط الإنتاج وكذلك لم يمكننا من إيصال خطوط المياه الناتجة من مصانعنا إلى شبكة الصرف الصحي الخاص في المدينة، وهو الأمر الذي يجعلنا عرضة للمخالفة ويسمح لهم بتطبيق الغرامات المحددة من الهيئة السعودية للمدن الصناعية، ونحن نتقدم له بالطلب تلو الآخر نرجو فيه إعطاءنا خطابات إلى كل من شركة الكهرباء السعودية ومصلحة المياه والصرف الصحي؛ حتى نتمكن من توصيل الخدمات إلا أننا فوجئنا بالتجاهل.
مصانع غير منتجة
وبين الشدوي أن الحميد رفع للجهات ذات الاختصاص أن المصانع غير منتجة ولا تعمل، وهذا يجانب الحقيقة، إذ إن المصانع لدينا تنتج ويعمل فيها العديد من أبناء الوطن، سواء من الشابات أو الشباب الذين يعملون في ظروف أقل ما يقال عنها إنها غير إنسانية؛ بسبب ضعف الكهرباء، خصوصا حين نحتاج تشغيل فرن طلاء المعادن، إذ إننا نضطر لإطفاء التكييف وجزء كبير من الإنارة لعدم التحميل على عداد الكهرباء الذي لا تتجاوز قوته المائة أمبير.
المسؤولون في المدينة لا يستجيبون
ويشير الشدوي إلى أنه حاول مرات عديدة أن يقنع رئيس المدينة الصناعية في مكة أن المصانع تنتج، وأن التعثر الذي حصل في الماضي كان بسبب خلاف مع الشركاء السعوديين، نتج عنه انسحابهم من المشروع وبالتالي تأخر الإنتاج، لكنه قال «استطعنا التغلب على هذه المعوقات، وأكملنا المشروع ونبدأ الإنتاج وطلبنا منه أن يزورنا ويشاهد بنفسه الإنتاج أو يكلف من يراه ليشاهد بنفسه أن المصانع تنتج وأن الإنتاج يصدر للخارج، ولدينا تعاقدات مع عدد من الجهات في الداخل والخارج، لكنه أبدى تعنتا شديدا ورفض الحضور، وحين حاولنا أن يرفع مخاطبات لمدير هيئة المدن الصناعية ومراكز التقنية رفض أن يستلم المكاتبات، الأمر الذي جعلنا نرفعها بواسطة البريد المسجل».
حل المشكلة
وعند سؤالنا عن الخطوات التي اتخذوها لحل هذه المشكلة، قال «بعد أن يئسنا من مدير المدينة الصناعية في مكة أخبرناه أن هناك جهات تحكمها وتحكمه يمكن الرجوع لها فرفعت برقية للجهات برقم (0707030210398 في 16/11/1428هـ)، أوضحت فيها معاناتي وبرقية لوزير التجارة والصناعة برقم (070730196198) وبرقية لمدير هيئة المدن برقم (070730196197)، ولم أنس مجلس الشورى، إذ رفعت له برقية برقم (070730196199) وكذلك وضعت الهيئة العليا للاستثمار في الموضوع، إذ رفعت لهم برقية برقم (070730196200) وأنا على ثقة من أن ولاة الأمر سينصفوني.
رد المدينة
بعد أن سمعنا من الشدوي معاناته توجهنا إلى مدير المدينة الصناعية في مكة المكرمة المهندس سعد الحميد الذي قال: إن الشدوي خالف العقد المبرم معه، وأنه تأخر في الإنتاج، وبناء عليه فإننا نطالبه أن يخلي الموقع ويسلمنا الأرض بدون شواغل، ورفعنا فيه للجهات المختصة لإجباره على أخلاء الموقع.
عند ذلك قلت له: لكن المصانع تنتج وتوظف سعوديين وتصدر ومن أهم أهداف الهيئة هو دعم الصناعة الوطنية، قال: وأن يكن، لو اتبعنا كل من يخالف الأنظمة لما انتهينا من هذه الإشكالات.
قلت له: إن ولاة الأمر يدعمون الصناعة ويشجعون عليها، قال: لقد تأخر في الإنتاج وعليه إشكاليات، وسنعمل على أن يخلي الموقع.