نهضت الصين ولم يهتز العالم كما توقع الان بيرفيت في منتصف السبعينات. لكن التجربة الصينية في التنمية تتحول بالتدريج الى نموذج معياري في الاصلاح الاقتصادي والتحديث منافس للنموذج الكلاسيكي الذي تتبناه الولايات المتحدة الامريكية والمؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي. يتفق النموذجان في معظم المفاهيم القاعدية لفكرة التنمية، ولا سيما المعايير والمؤشرات الدالة على درجة التطور الاقتصادي، وكذلك العوامل المؤثرة في الانتقال من عصر التقاليد الى الحداثة، والأهداف الكمية لعملية التنمية. لكنهما يختلفان في الاسلوب ويختلفان في المعايير غير الاقتصادية للنمو. الاسلوب الرئيسي لتحديث الاقتصاد في النموذج الكلاسيكي الغربي هو «العلاج بالصدمة»، الذي يقول ببساطة: دع آليات السوق تقرر مساره حتى لو تضرر البعض. يقوم هذا النموذج على مبدأ عميق الجذور في الفلسفة السياسية الحديثة فحواه ان عامة الناس اقدر من الحكومات على تحسين مستوى معيشتهم. الانسان بطبعه ميال الى توسيع مصالحه واملاكه وارباحه، ومن الافضل للحكومة ان تبتعد قليلا عن السوق وتفسح المجال للناس كي يتنافسوا من اجل الربح. عندئذ سيبتكر هؤلاء الناس طرقا افضل للعمل والانتاج. لا يحتاج السوق الى قرارات حكومية لتحديد ما هو مطلوب وما هو متوفر، السوق نفسه يوازن بين العرض والطلب ويقرر مستوياته ونوعيته.
طبقا لهذه النظرية فان النجاح بالمعنى الاقتصادي مرتبط بالربحية. وقد اكتشف العالم سلامة هذا المفهوم الى حد كبير. ثمة قطاعات كانت تعتبر في الماضي موضوعا لسيادة الدولة وسلطانها، مثل التعليم والصحة العامة والامن والصناعات العسكرية والمواصلات.. الخ. لكن ظهر اليوم ان هذه القطاعات ستكون اقدر على النجاح والتطور اذا تركت للناس يديرونها في سبيل الربح. لا ينحصر تاثير السوق في زيادة الثروة والاستثمار، بل يتعداه الى تغيير هيكل العلاقات الاجتماعية، ولا سيما اعادة صياغة التراتب بين الناس وفق معايير الكفاءة والجهد الشخصي بدلا من الانساب والانتماءات السابقة للولادة. من هنا فان المجتمع الحديث، أي المجتمع الذي يدير معيشته على اساس مفاهيم السوق الحرة، سيكون اقدر من المجتمع التقليدي على ابتكار الاطارات اللازمة لاستيعاب الاجيال الجديدة من الافراد الاكفاء والطامحين سيما الذين يأتون من خلفيات اجتماعية متواضعة.
ابتعاد أية حكومة عن السوق لا يعني بالضرورة تخليها عن سلطاتها، بل اقتصارها على دور الحكم المحايد، او مدير اللعبة الذي يشرف على حسن تطبيق قوانينها ومنع العدوان. وعلى هذا الاساس فان تنمية الاقتصاد تتطلب – حسب هذا النموذج – التزاما قويا من جانب الحكومة بفرض قانون واحد يتسع للجميع ويتساوى امامه الجميع، ويتطلب مساواة مطلقة بين الناس في عرض الفرص والموارد والامكانات، خاصة تلك التي تعتمد على المالية العامة، كما يتطلب التزام السياسيين ورجال الدولة بالترفع عن ممارسة التجارة او استخدام نفوذهم للحصول على مكاسب تجارية.
يقوم «النموذج الصيني» على نفس هذه المفاهيم، ولا سيما ابتعاد الحكومة عن السوق وحاكمية القانون والمساواة بين الناس ومنع استغلال السلطة. لكنه يدعو في الوقت نفسه الى دور اكبر للحكومة في توزيع النمو من خلال توجيه الموارد المالية الحكومية الى المناطق الاكثر فقرا، وتحملها عبء الدراسات الضرورية لاستنباط موارد جديدة في هذه المناطق. بعبارة اخرى فانه يفصل بين المناطق الجاذبة للاستثمار التي ستنمو اوتوماتيكيا اذا افسحت الحكومة المجال امام القطاع الخاص المحلي والاجنبي، والمناطق النائية التي تفتقر الى عناصر الجذب الاستثماري، ويعطي للحكومة دورا اكبر في هذه المناطق، سواء على مستوى التخطيط او التمويل.
في الحقيقة: النجاح الاعظم الذي حققته الصين يرجع الى هذا التقسيم العقلاني الذي ركز على استئصال الفقر من دون التدخل المفرط في السوق. طبقا لتقرير اصدره صندوق النقد الدولي في العام الماضي فان الصين حققت ما يشبه المعجزة على صعيد مكافحة الفقر في عصر خلا تقريبا من المعجزات. عند انطلاق برنامج الاصلاح في 1978 كان 53 بالمائة من الصينيين في خط الفقر او دونه. لكن هذا الرقم انخفض الى 8 بالمائة فقط في العام 2003. ولم يتحقق هذا النجاح من خلال الدعم المباشر للفقراء او تحول الحكومة الى جمعية خيرية، بل من خلال التنظيم العقلاني للاقتصاد والتوزيع العادل للموارد، وهذا ما نفهمه من الارتفاع الاستثنائي للناتج الوطني الصيني الاجمالي خلال الفترة المذكورة من 44 بليون دولار الى 1425 بليون دولار، بمعدل سنوي يفوق 9 بالمائة، وهو ما يزيد عن أي معدل تحقق في أي بلد آخر في العالم.
طبقا لهذه النظرية فان النجاح بالمعنى الاقتصادي مرتبط بالربحية. وقد اكتشف العالم سلامة هذا المفهوم الى حد كبير. ثمة قطاعات كانت تعتبر في الماضي موضوعا لسيادة الدولة وسلطانها، مثل التعليم والصحة العامة والامن والصناعات العسكرية والمواصلات.. الخ. لكن ظهر اليوم ان هذه القطاعات ستكون اقدر على النجاح والتطور اذا تركت للناس يديرونها في سبيل الربح. لا ينحصر تاثير السوق في زيادة الثروة والاستثمار، بل يتعداه الى تغيير هيكل العلاقات الاجتماعية، ولا سيما اعادة صياغة التراتب بين الناس وفق معايير الكفاءة والجهد الشخصي بدلا من الانساب والانتماءات السابقة للولادة. من هنا فان المجتمع الحديث، أي المجتمع الذي يدير معيشته على اساس مفاهيم السوق الحرة، سيكون اقدر من المجتمع التقليدي على ابتكار الاطارات اللازمة لاستيعاب الاجيال الجديدة من الافراد الاكفاء والطامحين سيما الذين يأتون من خلفيات اجتماعية متواضعة.
ابتعاد أية حكومة عن السوق لا يعني بالضرورة تخليها عن سلطاتها، بل اقتصارها على دور الحكم المحايد، او مدير اللعبة الذي يشرف على حسن تطبيق قوانينها ومنع العدوان. وعلى هذا الاساس فان تنمية الاقتصاد تتطلب – حسب هذا النموذج – التزاما قويا من جانب الحكومة بفرض قانون واحد يتسع للجميع ويتساوى امامه الجميع، ويتطلب مساواة مطلقة بين الناس في عرض الفرص والموارد والامكانات، خاصة تلك التي تعتمد على المالية العامة، كما يتطلب التزام السياسيين ورجال الدولة بالترفع عن ممارسة التجارة او استخدام نفوذهم للحصول على مكاسب تجارية.
يقوم «النموذج الصيني» على نفس هذه المفاهيم، ولا سيما ابتعاد الحكومة عن السوق وحاكمية القانون والمساواة بين الناس ومنع استغلال السلطة. لكنه يدعو في الوقت نفسه الى دور اكبر للحكومة في توزيع النمو من خلال توجيه الموارد المالية الحكومية الى المناطق الاكثر فقرا، وتحملها عبء الدراسات الضرورية لاستنباط موارد جديدة في هذه المناطق. بعبارة اخرى فانه يفصل بين المناطق الجاذبة للاستثمار التي ستنمو اوتوماتيكيا اذا افسحت الحكومة المجال امام القطاع الخاص المحلي والاجنبي، والمناطق النائية التي تفتقر الى عناصر الجذب الاستثماري، ويعطي للحكومة دورا اكبر في هذه المناطق، سواء على مستوى التخطيط او التمويل.
في الحقيقة: النجاح الاعظم الذي حققته الصين يرجع الى هذا التقسيم العقلاني الذي ركز على استئصال الفقر من دون التدخل المفرط في السوق. طبقا لتقرير اصدره صندوق النقد الدولي في العام الماضي فان الصين حققت ما يشبه المعجزة على صعيد مكافحة الفقر في عصر خلا تقريبا من المعجزات. عند انطلاق برنامج الاصلاح في 1978 كان 53 بالمائة من الصينيين في خط الفقر او دونه. لكن هذا الرقم انخفض الى 8 بالمائة فقط في العام 2003. ولم يتحقق هذا النجاح من خلال الدعم المباشر للفقراء او تحول الحكومة الى جمعية خيرية، بل من خلال التنظيم العقلاني للاقتصاد والتوزيع العادل للموارد، وهذا ما نفهمه من الارتفاع الاستثنائي للناتج الوطني الصيني الاجمالي خلال الفترة المذكورة من 44 بليون دولار الى 1425 بليون دولار، بمعدل سنوي يفوق 9 بالمائة، وهو ما يزيد عن أي معدل تحقق في أي بلد آخر في العالم.