نادرون حقا هم هؤلاء أصحاب المبادئ والرسالات، الذين يسخرون حياتهم وأقلامهم وكلماتهم من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل بشجاعة وصدق وأمانة وتجرد وإخلاص.
والأندر منهم هم هؤلاء الذين لا تتبدل ولا تتغير ولا تتلون ولا تميع مبادئهم بتعاقب الأيام وتغير المواقع والمواقف والظروف والأحوال، ومن علامة الواحد منهم هو أنك إذا عدت إلى تاريخ ما كتبوا وإن كان قبل عقود طويلة، فقرأت لهم وقارنت ما كتبوا آنذاك بما يكتبون الآن أو ما كتبوا قبل وفاتهم لوجدت الروح هي الروح ما تغيرت، والمبدأ هو المبدأ لم يتبدل، والصدق هو الصدق كما كان فالأيام لم تبدلهم، والزمان لم يغيرهم.. تقرأ كلماتهم قبل أربعة عقود وآخر ما خطت أيديهم قبل وفاتهم فتدرك وتجزم أن ما تخط به أيديهم ما هو إلا ثمار شجرة عريقة راسخة متأصلة ذات جذور عميقة تضرب تحت الأرض.
فالمبادئ عندهم لا تتجزأ وصاحب الرسالة والمبدأ لا يعرف إلا بها، فإن خيرا بينها وبين الحياة فإنه حتما سيختار موت الدنيا على أن تقتل رسالته ومبادئه بخيانته لها.
تلك معانٍ سامية ما أكثر الذين يتشدقون بها ويدعونها وينسبونها إلى أنفسهم، لكنها حقا قلما ترى حية تدب على الأرض إلا في نفر قليل.
عرفت محمد صلاح الدين على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وقرأت له على مدى ثلاثين عاما مضت، ورغم مشاغلنا إلا أن أكثر ما كان يجمعنا هو ما كنت أكتب أنا وما كان يكتب هو..
كان يعلم مدى انشغالي في المستشفى، فكان ــ رحمه الله ــ يجمع لي أفضل مقالات نشرت خلال الأسبوع أو الأسبوعين ويرسلها لي ويكتب عليها تعليقات خاصة بخط يده الجميل، وكانت هذه الملاحظات والتعليقات لي دون غيري، فكنت بذلك معه دائما وهو معي..
ولم أجد الأيام والسنون تزيد مقالاته إلا إصرارا على إحقاق الحق وجرأة وشجاعة ووضوحا، وكان كل ذلك مصبوغا بالحكمة والموعظة الحسنة تحقيقا لقول الله تعالى «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن».
مازلت أذكره قبل عقدين من الزمن وقد كتبت أول أربع مقالات لي، وكنت أخشى أن تقع هذه المقالات في يد من لا يقدر عملي فترفض فلم أأمن لأحد أن يقرأها إلا هو، فما كان منه إلا أن أرسلها للدكتور عبدالقادر طاش ــ رحمة الله عليه ــ وحثه على نشرها، وما كان من الدكتور عبدالقادر إلا أن ينشر كل المقالات، وكان آنذاك رئيس تحرير جريدة «المسلمون»، فكان الشيخ محمد صلاح الدين بذلك العمل من حمى ورعى أوائل بوادر نبتة الكتابة فيّ قبل أن أجد ممن حولي أي دعم ورعاية في هذا المضمار، وهذا هو حق له علي، ادعو الله أن يضع في ميزان حسناته كل كلمة كتبتها فكان فيها خير على مدى عقدين من الزمن.
مواقف كثيرة عرفت فيها الرجل، وهل يعرف الرجال إلا بعد التعامل معهم بالمال أو الجيرة أو السفر؛ أما المال فلي معه مواقف عديدة، فالمال عنده لا يعد ولا يتجاوز إلا أن يكون وسيلة لتحقيق الأهداف السامية والغايات النبيلة، والمال في يده لا في قلبه، أذكر مرة كنت معه في بوسطن وضاعت حقيبته التي يحملها بيده وفيها المال ومقالات عديدة قد تعب عليها، فوالله رأيته أول الصدمة ساكنا راضيا بما كتب الله، وهو يقول لي «أما المال فالله يخلفه ويعوضه، أما المقالات فأكتبها مرة أخرى فيضاعف الله الأجر والثواب ويذكرني الله ما فيه خير وأنسى ما هو دون ذلك فلا أكتبه حماية ورعاية من لدن عليم حكيم».
كان أول من دعمني لإصدار مجلة صحية، وكنت آنذاك ما أزال أحضر الزمالة، وكان اسم المجلة (صحتك اليوم) وكان ينفق عليها من مؤسسته الصحافية، وكنا لا نسمح فيها بأي إعلانات إلا ما لا يتعارض مع الدقة والأمانة الصحية فلا تصبح المجلة وسيلة لشركات الأدوية أو المستحضرات الطبية أن تبيع سلعتها من خلال هذه المجلة، مما أدى إلى تكبد المجلة خسائر مادية كبيرة، ورغم ذلك استمر ــ رحمه الله ــ في دعم المجلة سنوات متواصلة، وكان سعيدا برسالة المجلة ودورها في نشر الوعي الصحي ورفع مستوى الرعاية الصحية بانتشار المعلومة الصحية الدقيقة، فكانت المجلة له رسالة ودعوة وخدمة لها أجرها وثوابها عند الله.
بل أذكر أن مع صدور أول عدد من مجلة «صحتك اليوم» كتبت إحدى الصحف معلومة خاطئة أنني ووالدي نمول هذه المجلة ولم يكن هذا صحيحا، فطلبت منه أن نصحح المعلومة ولكنه رفض رفضا باتا، بل كان سعيدا ممتنا أن يبقى أجره خالصا كاملا بعيدا عن أعين الناس.
كان ــ رحمه الله ــ مرهف الإحساس، لا يحب أن يرهق أحدا، أو أن يطلب من أحد شيء، عفيف النفس، يخفي مرضه عن أقرب الأقربين إليه حتى لا يزعجهم أو يثقل عليهم، ومع هذه النفس المرهفة الرقيقة الحساسة نجده أسدا في الحق، وإنني رأيت أوضح ما أرى في أحد كيف يكون الصمت فكرا، والنطق ذكرا، والنظر عبرا، فكان ــ رحمه الله ــ كثير الصمت، مقلا في الكلام، تجده في المجالس والمحافل يؤثر الصمت والنظر، ولا ينطق إلا بقليل الكلام بصوت خافت من كمال خلقه وأدبه ولكنه واضح بين. وكم أكبرت فيه ما رأيت منه في مجالس ترتفع فيها أصوات لا تملك من علم مرحومنا الجزء القليل ولا أقل من القليل فما يكون منه أن وقعت عيني بعينه إلا أن يبتسم لي ابتسامة خفيفة صادقة نقية ترد على كل ما يقال فبادله التحية بمثلها.
وفي اليوم الثاني يكون رده مكتوبا في الصحف تأصيلا شرعيا أو فقهيا سياسيا أو علما اجتماعيا في كلمات مقتضبة مدروسة، فأقول في نفسي هذا شأن من أراد الإصلاح بعيدا عن لغو المجالس وشهوة الكلام.. لقد كان بحق مدرسة مميزة مختلفة عن غيرها.
وقبل تسعة أشهر وكنت عائدا من رحلة الحج، تلقيت مكالمة من زوجته الفاضلة السيدة صفية باجنيد تعلمني أنهم في طريقهم للطوارئ، فاتجهت للمستشفى وقد بينت الأشعة المقطعية والتشخيص بإصابته بنزيف في الدماغ.
وبدأت معها رحلة من نوع آخر؛ رحلة كان لا بد لها لرجل مثل هذا، وكنت وأنا أنظر إليه خلال تسعة أشهر من المعاناة أتذكر كيف أن الله إذا أحب عبدا وكتب له مكانا رفيعا في الجنة لم يكن ليبلغه بعمله ابتلاه في جسده حتى إذا وصل إلى ذلك المقام قبضه إليه، وإن أكثر الناس ابتلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم ما دون ذلك.
ذهبت لزيارته في بوسطن في مركز التأهيل فكانت لي فرصة أن أجلس معه وحيدا، كلامه لا يكاد يكون همسا لا يسمع، وحركته لا يكاد يرى منها إلا عينيه وبعض حركات بسيطة من أطرافه، سجين في جسده تماما كما صورها هو وكتبها بصعوبة فائقة على الورق لزوجته، عندما تنظر لعينيه تجدهما تلك العينين اللماحتين تخفي وراءهما العقل الراجح النير الحكيم، ولكن لا حراك ولا كلام ..
رحلة تمحيص وابتلاء، أم هي حقا المنحة في صورة المحنة، وأنا أقول في نفسي، أربعة عقود من الجهاد بالقلم، أحسب الله يرفع بهذا الابتلاء مقامه في الجنة.. أربعة عقود يكتب عن الطغاة الظالمين وعن الفساد والمفسدين في الأرض ولكنه لم ير سقوطهم الواحد تلو الآخر من تونس إلى مصر إلى ليبيا..
كما كان يقول (سبحة تفرط) سيسقطون الواحد تلو الآخر في زمن وجيز، ذكرت له ما حدث في تونس ومصر وما يحدث في ليبيا وسورية واليمن، وهو يسمع ويبتسم ابتسامة خفيفة تنم عن ارتياح وتتلألأ عيناه بدمعة الرضى..
وشاء الله له أن يغادر الدنيا بعد تسعة أشهر من المعاناة والجلد والصبر ونحسبه وصل إلى المقام العالي الرفيع الذي أراده الله له ولم يكن ليبلغه إلا بأن يكلل جهاد عمره بجهاد من نوع آخر؛ جهاد الصبر على المرض، وأن يحمل هم هذا المرض والحال الذي فيه وهنا على وهن تسعة أشهر حتى المخاض ليخرج من الدنيا في ليلة التاسع والعشرين من شهر رمضان المبارك لهذا العام.
جلسنا ننتظر وقت صلاة الظهر في المسجد الحرام وجيء بالكفن، ورزقني الله أن أكون جالسا عند رأسه وليس قريبا منا أحد، فكان بيني وبينه آخر حديث على وجه الأرض، وكم من حي جسده يمشي على الأرض ميت قلبه فهو في تعداد الأموات، وكم من ميت جسده وهو حي بما يعلم بصمته وسكونه وحاله أحكم وأعلم الأحياء من العباد.
إننا كلنا نعزى فيك يا أبا عمر، والأمة كلها تعزى فيك، ومن قرأ لهذا الرجل على مدى أربعة عقود يدرك خسارة الأمة بمغادرته للدنيا خاصة في أيامنا هذه، ربيع الأمة العربية.
أما عزائي الخاص فهو لزوجته السيدة العظيمة الفاضلة صفية باجنيد التي هي كذلك مدرسة في الصبر والمجالدة والعطاء والتضحية والإيثار والوفاء.
رحمة الله عليك يا أبا عمر .. ووالله إنني فرحت لك بأن عيدك إن شاء ربي كان هناك مع من تشتاق لصحبتهم أفئدة وقلوب المؤمنين من العباد..
* طبيب استشاري، ورئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للمركز الطبي الدولي
فاكس: 96626509659+
okazreaders@imc.med.sa
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 197 مسافة ثم الرسالة
والأندر منهم هم هؤلاء الذين لا تتبدل ولا تتغير ولا تتلون ولا تميع مبادئهم بتعاقب الأيام وتغير المواقع والمواقف والظروف والأحوال، ومن علامة الواحد منهم هو أنك إذا عدت إلى تاريخ ما كتبوا وإن كان قبل عقود طويلة، فقرأت لهم وقارنت ما كتبوا آنذاك بما يكتبون الآن أو ما كتبوا قبل وفاتهم لوجدت الروح هي الروح ما تغيرت، والمبدأ هو المبدأ لم يتبدل، والصدق هو الصدق كما كان فالأيام لم تبدلهم، والزمان لم يغيرهم.. تقرأ كلماتهم قبل أربعة عقود وآخر ما خطت أيديهم قبل وفاتهم فتدرك وتجزم أن ما تخط به أيديهم ما هو إلا ثمار شجرة عريقة راسخة متأصلة ذات جذور عميقة تضرب تحت الأرض.
فالمبادئ عندهم لا تتجزأ وصاحب الرسالة والمبدأ لا يعرف إلا بها، فإن خيرا بينها وبين الحياة فإنه حتما سيختار موت الدنيا على أن تقتل رسالته ومبادئه بخيانته لها.
تلك معانٍ سامية ما أكثر الذين يتشدقون بها ويدعونها وينسبونها إلى أنفسهم، لكنها حقا قلما ترى حية تدب على الأرض إلا في نفر قليل.
عرفت محمد صلاح الدين على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وقرأت له على مدى ثلاثين عاما مضت، ورغم مشاغلنا إلا أن أكثر ما كان يجمعنا هو ما كنت أكتب أنا وما كان يكتب هو..
كان يعلم مدى انشغالي في المستشفى، فكان ــ رحمه الله ــ يجمع لي أفضل مقالات نشرت خلال الأسبوع أو الأسبوعين ويرسلها لي ويكتب عليها تعليقات خاصة بخط يده الجميل، وكانت هذه الملاحظات والتعليقات لي دون غيري، فكنت بذلك معه دائما وهو معي..
ولم أجد الأيام والسنون تزيد مقالاته إلا إصرارا على إحقاق الحق وجرأة وشجاعة ووضوحا، وكان كل ذلك مصبوغا بالحكمة والموعظة الحسنة تحقيقا لقول الله تعالى «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن».
مازلت أذكره قبل عقدين من الزمن وقد كتبت أول أربع مقالات لي، وكنت أخشى أن تقع هذه المقالات في يد من لا يقدر عملي فترفض فلم أأمن لأحد أن يقرأها إلا هو، فما كان منه إلا أن أرسلها للدكتور عبدالقادر طاش ــ رحمة الله عليه ــ وحثه على نشرها، وما كان من الدكتور عبدالقادر إلا أن ينشر كل المقالات، وكان آنذاك رئيس تحرير جريدة «المسلمون»، فكان الشيخ محمد صلاح الدين بذلك العمل من حمى ورعى أوائل بوادر نبتة الكتابة فيّ قبل أن أجد ممن حولي أي دعم ورعاية في هذا المضمار، وهذا هو حق له علي، ادعو الله أن يضع في ميزان حسناته كل كلمة كتبتها فكان فيها خير على مدى عقدين من الزمن.
مواقف كثيرة عرفت فيها الرجل، وهل يعرف الرجال إلا بعد التعامل معهم بالمال أو الجيرة أو السفر؛ أما المال فلي معه مواقف عديدة، فالمال عنده لا يعد ولا يتجاوز إلا أن يكون وسيلة لتحقيق الأهداف السامية والغايات النبيلة، والمال في يده لا في قلبه، أذكر مرة كنت معه في بوسطن وضاعت حقيبته التي يحملها بيده وفيها المال ومقالات عديدة قد تعب عليها، فوالله رأيته أول الصدمة ساكنا راضيا بما كتب الله، وهو يقول لي «أما المال فالله يخلفه ويعوضه، أما المقالات فأكتبها مرة أخرى فيضاعف الله الأجر والثواب ويذكرني الله ما فيه خير وأنسى ما هو دون ذلك فلا أكتبه حماية ورعاية من لدن عليم حكيم».
كان أول من دعمني لإصدار مجلة صحية، وكنت آنذاك ما أزال أحضر الزمالة، وكان اسم المجلة (صحتك اليوم) وكان ينفق عليها من مؤسسته الصحافية، وكنا لا نسمح فيها بأي إعلانات إلا ما لا يتعارض مع الدقة والأمانة الصحية فلا تصبح المجلة وسيلة لشركات الأدوية أو المستحضرات الطبية أن تبيع سلعتها من خلال هذه المجلة، مما أدى إلى تكبد المجلة خسائر مادية كبيرة، ورغم ذلك استمر ــ رحمه الله ــ في دعم المجلة سنوات متواصلة، وكان سعيدا برسالة المجلة ودورها في نشر الوعي الصحي ورفع مستوى الرعاية الصحية بانتشار المعلومة الصحية الدقيقة، فكانت المجلة له رسالة ودعوة وخدمة لها أجرها وثوابها عند الله.
بل أذكر أن مع صدور أول عدد من مجلة «صحتك اليوم» كتبت إحدى الصحف معلومة خاطئة أنني ووالدي نمول هذه المجلة ولم يكن هذا صحيحا، فطلبت منه أن نصحح المعلومة ولكنه رفض رفضا باتا، بل كان سعيدا ممتنا أن يبقى أجره خالصا كاملا بعيدا عن أعين الناس.
كان ــ رحمه الله ــ مرهف الإحساس، لا يحب أن يرهق أحدا، أو أن يطلب من أحد شيء، عفيف النفس، يخفي مرضه عن أقرب الأقربين إليه حتى لا يزعجهم أو يثقل عليهم، ومع هذه النفس المرهفة الرقيقة الحساسة نجده أسدا في الحق، وإنني رأيت أوضح ما أرى في أحد كيف يكون الصمت فكرا، والنطق ذكرا، والنظر عبرا، فكان ــ رحمه الله ــ كثير الصمت، مقلا في الكلام، تجده في المجالس والمحافل يؤثر الصمت والنظر، ولا ينطق إلا بقليل الكلام بصوت خافت من كمال خلقه وأدبه ولكنه واضح بين. وكم أكبرت فيه ما رأيت منه في مجالس ترتفع فيها أصوات لا تملك من علم مرحومنا الجزء القليل ولا أقل من القليل فما يكون منه أن وقعت عيني بعينه إلا أن يبتسم لي ابتسامة خفيفة صادقة نقية ترد على كل ما يقال فبادله التحية بمثلها.
وفي اليوم الثاني يكون رده مكتوبا في الصحف تأصيلا شرعيا أو فقهيا سياسيا أو علما اجتماعيا في كلمات مقتضبة مدروسة، فأقول في نفسي هذا شأن من أراد الإصلاح بعيدا عن لغو المجالس وشهوة الكلام.. لقد كان بحق مدرسة مميزة مختلفة عن غيرها.
وقبل تسعة أشهر وكنت عائدا من رحلة الحج، تلقيت مكالمة من زوجته الفاضلة السيدة صفية باجنيد تعلمني أنهم في طريقهم للطوارئ، فاتجهت للمستشفى وقد بينت الأشعة المقطعية والتشخيص بإصابته بنزيف في الدماغ.
وبدأت معها رحلة من نوع آخر؛ رحلة كان لا بد لها لرجل مثل هذا، وكنت وأنا أنظر إليه خلال تسعة أشهر من المعاناة أتذكر كيف أن الله إذا أحب عبدا وكتب له مكانا رفيعا في الجنة لم يكن ليبلغه بعمله ابتلاه في جسده حتى إذا وصل إلى ذلك المقام قبضه إليه، وإن أكثر الناس ابتلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم ما دون ذلك.
ذهبت لزيارته في بوسطن في مركز التأهيل فكانت لي فرصة أن أجلس معه وحيدا، كلامه لا يكاد يكون همسا لا يسمع، وحركته لا يكاد يرى منها إلا عينيه وبعض حركات بسيطة من أطرافه، سجين في جسده تماما كما صورها هو وكتبها بصعوبة فائقة على الورق لزوجته، عندما تنظر لعينيه تجدهما تلك العينين اللماحتين تخفي وراءهما العقل الراجح النير الحكيم، ولكن لا حراك ولا كلام ..
رحلة تمحيص وابتلاء، أم هي حقا المنحة في صورة المحنة، وأنا أقول في نفسي، أربعة عقود من الجهاد بالقلم، أحسب الله يرفع بهذا الابتلاء مقامه في الجنة.. أربعة عقود يكتب عن الطغاة الظالمين وعن الفساد والمفسدين في الأرض ولكنه لم ير سقوطهم الواحد تلو الآخر من تونس إلى مصر إلى ليبيا..
كما كان يقول (سبحة تفرط) سيسقطون الواحد تلو الآخر في زمن وجيز، ذكرت له ما حدث في تونس ومصر وما يحدث في ليبيا وسورية واليمن، وهو يسمع ويبتسم ابتسامة خفيفة تنم عن ارتياح وتتلألأ عيناه بدمعة الرضى..
وشاء الله له أن يغادر الدنيا بعد تسعة أشهر من المعاناة والجلد والصبر ونحسبه وصل إلى المقام العالي الرفيع الذي أراده الله له ولم يكن ليبلغه إلا بأن يكلل جهاد عمره بجهاد من نوع آخر؛ جهاد الصبر على المرض، وأن يحمل هم هذا المرض والحال الذي فيه وهنا على وهن تسعة أشهر حتى المخاض ليخرج من الدنيا في ليلة التاسع والعشرين من شهر رمضان المبارك لهذا العام.
جلسنا ننتظر وقت صلاة الظهر في المسجد الحرام وجيء بالكفن، ورزقني الله أن أكون جالسا عند رأسه وليس قريبا منا أحد، فكان بيني وبينه آخر حديث على وجه الأرض، وكم من حي جسده يمشي على الأرض ميت قلبه فهو في تعداد الأموات، وكم من ميت جسده وهو حي بما يعلم بصمته وسكونه وحاله أحكم وأعلم الأحياء من العباد.
إننا كلنا نعزى فيك يا أبا عمر، والأمة كلها تعزى فيك، ومن قرأ لهذا الرجل على مدى أربعة عقود يدرك خسارة الأمة بمغادرته للدنيا خاصة في أيامنا هذه، ربيع الأمة العربية.
أما عزائي الخاص فهو لزوجته السيدة العظيمة الفاضلة صفية باجنيد التي هي كذلك مدرسة في الصبر والمجالدة والعطاء والتضحية والإيثار والوفاء.
رحمة الله عليك يا أبا عمر .. ووالله إنني فرحت لك بأن عيدك إن شاء ربي كان هناك مع من تشتاق لصحبتهم أفئدة وقلوب المؤمنين من العباد..
* طبيب استشاري، ورئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للمركز الطبي الدولي
فاكس: 96626509659+
okazreaders@imc.med.sa
للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 197 مسافة ثم الرسالة