-A +A
هشام عليوان ـ بيروت
النهاية المبتذلة للعقيد معمر القذافي تتناقض بشكل صارخ مع البداية المبجلة. مسار الحياة الحافلة بالغرائب، الطرائف، الصراعات، الاضطرابات، المؤامرات، الخطب الرنانة، والأفكار غير المألوفة، لم يكن يوحي أبدا بنهاية شبيهة، إذ نجح العقيد بقفزاته النوعية فوق الأحداث في تجاوز الأخطار. وبدا وكأنه قادر على اتخاذ المواقف المتنافرة بل تبديلها من طرف إلى نقيضه، لدى استشعار الخطر، وأن هذا كفيل وحده بحمايته وأسرته من الدمار.

من كان يائسا من التغيير خلال 42 عاما من حكم القذافي لم يكن يعدم الشواهد التي تعزز ذلك، فقد تغلب على انقلابات رفاقه وأقرب معاونيه بل تمكن من تصفية أبرزهم في ليبيا والخارج. وتمكن من القضاء على الحركات الإسلامية التي ناهضته وحاولت اغتياله. بل حصل على تراجعاتهم عن سابق أعمالهم، بعدما تعاونت معه الاستخبارات الأمريكية في سياق الحرب العالمية على الإرهاب وسلمته أخطر معارضيه.
وحتى أزمة لوكربي والحصار الذي استمر لأكثر من عشر سنوات، انتهت بتسوية مالية لا تساوي شيئا بالنظر إلى الثروة الضخمة لليبيا، والتي كان يستحوذ عليها هو وأولاده. وآخر العقبات كان الملف النووي، وقد نجح القذافي في استثماره والحصول مقابله على مكاسب سياسية لم يكن يحلم بها، ولم يحصل عليها الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين في عز سطوته ونفوذه، فبات القذافي ابتداء من عام 2003 ضيفا محترما في أوروبا، فدخل المفوضية الأوروبية في بروكسل وحاور النواب فيها، ثم استقبل بعد أشهر، أبرز القادة الأوروبيين؛ توني بلير رئيس الحكومة البريطانية، جيرهارد شرودر المستشار الالماني وجاك شيراك رئيس فرنسا. ثم حل على القمة الافريقية الأوروبية عام 2007، وزار فرنسا وإسبانيا وعقد صداقة متينة مع رئيس الحكومة الإيطالية برلسكوني، بل حصل على الاعتذار الرمزي عن حقبة استعمار إيطاليا لليبيا، مقابل استثمارات ليبية ضخمة في الاقتصاد الإيطالي.
ولم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن مسار التطبيع المتسارع مع ليبيا، فبدا وكأن القذافي هو النموذج النقيض لصدام حسين، فهو سلم سلاحه النووي المفترض وحاز على كل الامتيازات الممكنة، في حين أن صدام فشل في تلبية الشروط المطلوبة منه فسقط نظامه في حملة عسكرية ضارية، واعتقل في حفرة، ثم حوكم وأعدم شنقا في سابقة تاريخية لم يشهد العالم العربي لها مثيلا. لذلك، حين انطلقت الثورة الشعبية في 17 فبراير الماضي ضد نظام العقيد المطمئن إلى سيطرته في الداخل وعلاقاته في الخارج، لم يتمكن من إدراك مغزى هذا التغيير المفاجئ في المعادلة التي أرساها طويلا دون أي عائق يذكر. ولعل الصدمة التي أصابت القذافي منذ تلك اللحظة قد أعجزته عن اتخاذ القرارات الصائبة، وهو الذي حقق في العام السابق أقصى ما يمكن تحقيقه كحاكم مستبد يملك كل الموارد البشرية والمادية اللازمة للاستمرار على ما هو عليه، فلديه أبناء وأولاد عمومة يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم، ويتمتعون بكفاءات ومؤهلات لا يملكها هو، من حيث الخبرة والمعرفة بفنون العصر وأدواته. ولديه عشيرته والقبائل الكبرى المتحالفة معه، حتى ليحق له جزئيا أن يسأل مستنكرا في الأيام الأولى لانتفاضة بنغازي: «من أنتم» وهم الذين لم يضعهم في اعتباره في يوم من الأيام، وكان يحتقرهم ويحرمهم أدنى المستلزمات لعيش كريم، بل كان يشجع اللامعين منهم للدراسة في الخارج والإقامة في الغرب، تخلصا من خطرهم المحتمل في الداخل، مع إبقائهم تحت الرقابة اللصيقة من استخباراته الخارجية التي كانت تصرف جل جهودها ومواردها لمراقبة الليبيين في المنفى الطوعي أو الإجباري.
أحس القذافي بالنار تقترب مع ثورة تونس وفرار الرئيس زين العابدين بن علي، فخرج منددا مطالبا بعودته باعتباره الشخص الأفضل لتونس. ثم ثار المصريون على حكم الرئيس السابق حسني مبارك، فوجد القذافي نفسه محاطا بين ثورتين أطاحتا برئيسين من أصول عسكرية مثله، فقرأ الدروس منهما واستنتج أن بن علي أخطأ بفراره وهو يملك الوسائل والأدوات لقمع الثورة، وأن مبارك أخطأ أيضا بتنحيه عن السلطة وتسليمها إلى المجلس العسكري، وكان بإمكانه الصمود مستندا إلى مؤيديه الكثر، وإلى المؤسسات المدنية والعسكرية التي تخضع لإمرته. ولذلك قرر استخدام كامل القوة ضد المنتفضين ضده في بنغازي وعموم الشرق، فأرسل البوارج والطائرات والدبابات لسحق الثورة. لكن العامل الخارجي الذي أغفله القذافي أصاب منه مقتلا، وكانت مفاجأته عارمة حين انقلبت عليه الدول الأوروبية التي استقبلته بحفاوة في السنوات القليلة الماضية. وساركوزي الذي مول حملته الانتخابية وبرلسكوني الذي مده باستثمارات كبرى في اقتصاد بلاده يقفان على رأس التحالف الدولي المناهض له والداعم للثوار بهدف إطاحته عن الحكم بالقوة. بل سارعت المحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار مذكرة توقيف بسبب ارتكابه جرائم ضد الإنسانية، وهو الذي نجا من مذبحة لوكربي قبل ذلك بأقل الخسائر السياسية والمادية.
كانت الصدمة أكبر من أن تحتمل أو أن تستوعب، وبدلا من أن ينحني القذافي أمام العاصفة، ولا سيما أن قواته نجحت في البداية في تثبيت خطوط التماس بين الشرق والغرب، على حدود البريقة كما أنه تمكن من السيطرة مجددا على العاصمة وعلى مدن وبلدات الغرب، وحاصر مصراتة المدينة الرئيسة، وقطع عنها طرق الإمداد، حيث كان بإمكانه إدارة الأزمة ببراغماتيته المعروفة عنه، رغم ضجيجه الأيديولوجي الصاخب، لكنه اتخذ سلسلة من القرارات الخاطئة التي برهنت على أنه عاجز عن إدراك الواقع المتغير، فظل يراهن حتى اللحظة الأخيرة على الجماهير المؤيدة له، كي تحسم المعركة ضد المعارضين («الجرذان» كما سماهم، «عملاء الناتو» كما اعتبرهم). ومع إصراره على مواجهة الحلف الدولي رغم الخسائر الفادحة التي لحقت بقواته على كافة الجبهات، وعلى تدمير المدن بمن فيها وتصفية الأسرى وانتهاك الحرمات، كان الخناق يشتد حول عنقه رغم مظاهر الصمود العام، وإشارات المقاومة الشديدة في أكثر من مكان. وألقى إليه أصدقاؤه السابقون حبل النجاة، مرات عدة، ودلوه إلى طريق الهرب والاختفاء في مجاهل أفريقيا أو أمريكا اللاتينية حيث كان سيلقى الترحيب أينما حل وارتحل، لكنه تمسك بأهداب التاريخ المتفلت من بين يديه، حتى مع السقوط الصاعق لطرابلس الغرب، ولمقره الحصين في باب العزيزية، مفضلا خوض المعارك الخاسرة في ضواحي طرابلس ثم بني الوليد في مسقط رأسه سرت، حتى كانت النهاية غير المتوقعة ووقوعه أسيرا في أيدي ثوار مصراتة الذين عانوا أشد المعاناة من كتائبه المسلحة ومرتزقته المأجورين.
ولم يحظ القذافي بفرصة الدفاع عن نفسه في محكمة أمام الملأ، كما كان حال صدام حسين، بل كان أشبه بموسوليني حاكم إيطاليا المطلق الذي انقلب عليه رجاله وشهروا بجثته أمام أعين العالم.