-A +A
سلمان بن فهد العودة
حين طلبت مني بنتي (نوارة) أن أتحدث عن الابتلاء، أثارث في نفسي استغرابا، وذكرتني بأنها المرة الأولى التي أحاول فيها طرق الموضوع مستقلا طيلة حياتي على قربه وأهميته. جوانب منه عالجتها ضمن حلقات إعلامية، لكن لا أذكر أني جمعت أطرافه وسؤالاته في حيز واحد مع تعلقه بكل مخلوق بلا استثناء. أولا: الحياة التي تنبض في جسدك ابتلاء، والموت الذي سيطويك هو ابتلاء: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا)(الملك: من الآية2)، تفصيلات الحياة؛ أنفاسها، تحولاتها، وجوهها، أدواتها. الابتلاء هنا جماعي يدعو إلى السباق والتنافس الشريف بين الشعوب والفرق والطوائف. مسؤولية الفرد ليست ملغاة أو مصادرة، فهو موضع الابتلاء: (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا) (الفجر: 19-21).
الإكرام والنعمة ابتلاء، والفقر والتضييق ابتلاء، ومعايير الناس ليست رشيدة دائما؛ إذ يعدون الرزق علامة الرضا، والحرمان علامة الغضب والإهانة! تأمل نفسك، وتأمل الناس من حولك.. تجد جلهم هكذا ينظرون ويفكرون، حين لا يتحقق لهم ما يريدون يحسبون الأمر عقابا أو سخطا، ويندر أن تجد المنعمين والموسع عليهم يداخلهم خوف أو تردد أن يكون العطاء عقوبة!! ثانيا: التعامل الإيجابي مع الابتلاء هو سر النجاح؛ أن تتعامل مع الممكن وليس مع المستحيل، ومن الناس من يقضي عمره في تمني المحال بدل أن يمضيه في فعل المستطاع!
الصبر على ما تكره في الوجود هو الدرجة الأولى «ومن يتصبر يصبره الله»، والرضا درجة أتم وأسمى.
رضيت في حبك الأيام جائرة
فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذب
والدرجة العليا هي الشكر، وهي من أعلى المنازل وهي فوق منزلة الرضا وزيادة، فالرضا مندرج في الشكر إذ يستحيل وجود الشكر بدونه، وهو نصف الإيمان، فالإيمان نصفان: «نصف شكر، ونصف صبر». الصبر الجميل يتطور بالمحاولة إلى رضا، والرضا يرتقي إلى مقام الشكر.
كتاب «سكينة الروح، صفاء العيش في حلو الأيام ومرها» من تأليف: «بيرم كرسو»، يحوي أفكارا جميلة في تقبل الواقع كما هو إن وقع علينا، أو على من حولنا. إدمان التذمر عادة مدمرة لنفسية الفتى أو الفتاة، وكثرة التضجر والشكوى واستجلاب الشفقة هي سلبية لا تليق بالمخلوق المزود بأدوات المقاومة والتكيف، والممكن من اختطاط سبيل الإيمان والتوكل.
ثالثا: اللسان يشترك مع الإنسان في معظم حروفه في لغة العرب، وقد عده «زهير» نصفا حين قال:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
فالإنسان إذن هو مجموعة الكلمات والحروف والجمل؛ التي ينطق بها في حياته، حتى الأبكم لديه كلمات إيجابية أو سلبية، ولكنه لا يستطيع البوح بها، وهي تعبر عن شخصيته، ومزاجه، وحالته النفسية.
كل المشاريع والأفكار الإبداعية العظيمة كانت قبل أن ترى النور كلمات يتحادث حولها أصحابها، ويقدمون الدراسات، ولذا قال: علي بن أبي طالب وأيضا سقراط: «تحدث حتى أراك»! قصة الرقيب والعتيد وهما وصفان للملكين الموكلين بالإنسان مدعاة للتأمل، فهما يكتبان الأقوال، ومعنى ذلك أنهما قريبان من منطقة الفم؛ لرصد الحروف والكلمات التي يتفوه بها، ولا يحاسب عليها الإنسان ما دامت مجرد فكرة عابرة. أولئك الذين يشتغلون دوما بندب حظهم العاثر، وشخصياتهم المحطمة، وفشلهم الأزلي.. هم يبنون الأسوار بعد الأسوار التي تجعل خلاصهم أمرا في غاية العسر ما لم يكفوا عن هجاء القدر بلغتهم السوداوية! تسألني ابنتي: وهل تريد منا أن نمثل فنقول خلاف الواقع؟ نعم؛ قولي خلاف الواقع الذي اعتدت على رؤيته، والتفتي إلى واقع آخر إلى جانبه، أو على الفلسفة العمرية الرائعة؛ «فري من قدر الله إلى قدر الله»، أو التفتي إلى أمل قريب يوشك أن يكون واقعا لو أردت، والقرآن ربط الخير والشر، والإيمان والإلحاد، وسائر أفعال الإنسان بـ«الإرادة». اقرئي الوجه المشرق حتى في المنع، والحرمان، والمرض، والأذى، والمصائب.. هذا الذي تسمينه «تمثيلا» سيصبح مع التدريب والمداومة عادة حسنة، وما تقولينه سوف تسمعه أذنك، ويخزنه عقلك الباطن، ويعيد إملاءه عليك! حتى في المزاح علينا أن نتوقى الألفاظ السلبية، فالمريض الذي يتندر أن المرض يغادره ليفسح الطريق لعلة أشد وأقسى. والطالب الذي يقول إنه مثل «سائق الباص» ينزل الركاب، ويأتي آخرون، وهو في مكانه لا يبرح ولا يريم! والبنت التي تقول إنها ترى أحلاما لبنات فتفسر بزواجهن، فتقول: مهمتي الحلم، ومهمتكن الزواج! وصاحب الدعابة الذي يتندر على والده، أو على كبار السن بالموت، وأنكم على شفير القبر.. عليه أن يكف عن هذا المزاح، فهو قول سلبي، ولديه (رقيب عتيد)، وإياك أن تظن أن ضحك من حولك يعني تسويغا تاما لما تقول، قد تعجبهم النكتة، وفي داخلهم ضيق لا يكاد يبين، ستدركه إن كنت من ذوي الفراسة المتوسمين. رابعا: الابتلاء إذن يكون بالخير وبالشر؛ (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) (الأنبياء: من الآية35). والمقصود منه: ظهور علم الله في العبد، فينتقل من علم الغيب إلى علم الشهادة، ويراه الناس عيانا، ويتحدثون به، ولذا كان عمر ــ رضي الله عنه ــ يقول: «الغنى والفقر مطيتان، والله ما أبالي أيهما ركبت!». وقول الملهم عمر يطرد في الصحة والمرض، والشهرة والخمول. وقد عقد ابن القيم مناظرة في التفضيل بين «الغني الشاكر، والفقير الصابر»، وانتهى إلى أن أفضلهم اتقاهم لله إذا تساووا في كل شيء. وصف عطاء الخراساني حجرات أزواج النبي ــ عليه الصلاة والسلام ــ فقال: أدركت حجر أزواج رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبدالملك يقرأ يأمر بإدخال حجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فما رأيت يوما أكثر باكيا من ذلك اليوم، فسمعت سعيد بن المسيب ــ رضي الله عنه ــ يقول يومئذ: والله لوددت أنهم تركوها على حالها ينشأ ناس من أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الأفق فيرى ما اكتفى به رسول الله في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها. وقال يومئذ أبو أمامة بن سهل بن حنيف: ليتها تركت فلم تهدم حتى يقصر الناس عن البناء ويرون ما رضي الله لنبيه ومفاتيح خزائن الدنيا بيده. قيمة الإنسان الحقة هي في ذاته ومعدنه، وليست في الأشياء، فالأشياء تذهب وتجيء، وتمنح وتمنع، والكرسي دوار.. (يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) (النور:44).

للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 138 مسافة ثم الرسالة