في 25 يوليو عام 1990 استدعى صدام حسين السفيرة الأمريكية في بغداد أبريل غلاسبي إلى مكتبه بحضور وزير الخارجية طارق عزيز، في اتصال هو الأرفع من نوعه بين العراق والولايات المتحدة قبل اجتياح الكويت.
في اللقاء، تحدث صدام مطولاً عن وضع العلاقات الأمريكية العراقية بعد عام 1984، وأسباب الخلاف بين البلدين، متطرقاً إلى القضية الساخنة آنذاك بين العراق من جهة وبين الكويت والإمارات من جهة أخرى، لكن القصد الحقيقي من وراء الاستدعاء كان اختبار الموقف الأمريكي إزاء أي صراع قريب بين العراق وجيرانه العرب، وكان الرد الغامض وغير الحاسم لغلاسبي، مؤشراً كافياً لصدام حتى يقوم بمغامرته العسكرية الثانية والتي ستكون الأكثر مأساوية من المغامرة الأولى مع إيران. قيل الكثير عن لقاء صدام غلاسبي، وعن استدراج صدام إلى الفخ المنصوب بإحكام، حتى يأتي الأمريكيون بعد ذلك بجيشهم وجَلَبهم، لكن نص اللقاء بحسب ما نشرته النيويورك تايمز في 23 سبتمبر 1990 نقلاً عن المصادر العراقية الرسمية بواسطة قناة «آي بي سي»، والتي لم تعلّق على مضمونه الخارجية الأمريكية آنذاك، يكشف منهج تفكير صدام، والرسائل الضمنية التي وجهها إلى واشنطن، كما نوع العلاقات القائمة على الحذر وعدم الثقة بين البلدين، رغم الدعم الأمريكي غير المحدود لصدام في حربه ضد إيران.
قال صدام لغلاسبي: «تعرفون أن علاقتنا كانت مقطوعة مع الولايات المتحدة حتى عام 1984، وتعرفون الظروف والأسباب التي أدت إلى قطع العلاقة (حرب 1967)، وقد بينا لكم ان قرار إعادة العلاقة مع الولايات المتحدة قد اتخذ في الواقع في عام 1980، خلال الشهرين اللذين سبقا قيام الحرب بيننا وبين إيران، ولكن عندما قامت الحرب، مع ملابساتها المعروفة، ولأننا حريصون على أن نتصرف بالقضايا الكبيرة بما لا يجعل الآخرين يفسرون الأمور إلا في إطارها الصحيح، أجّلنا إعادة العلاقة على أمل أن تنتهي الحرب بسرعة. ولأن الحرب استمرت طويلاً، وتأكيداً لمبادئنا التي تقول إننا بلد غير منحاز، كان لا بد من أن نعيد العلاقات مع الولايات المتحدة فجاء التوقيت في عام 1984».
الولايات المتحدة ليست كإنكلترا مثلاً، التي لها علاقات تاريخية مع دول المنطقة ولا سيما العراق، وبسبب انقطاع العلاقات بيننا، «لا بد أن نقول إنه سيصعب على الولايات المتحدة أن تفهم الكثير من الأمور في العراق كما ينبغي، وكان مؤملاً بالعلاقة الجديدة التي استؤنفت أن نعاون بعضنا لكي يفهم كل منا الآخر، لأننا نحن أيضاً ما زلنا نجهل الكثير من الخلفيات والأمور التي يستند إليها القرار الأمريكي».
وتحدث صدام عن منغّصات العلاقة مع واشنطن، بعد إعادة العلاقات، مثلاً قضية «إيران غيت» وهي صفقة تبادل الرهائن الأجانب بالسلاح، في عام 1986، والتي حدثت في عام احتلال إيران لشبه جزيرة الفاو. ورأى صدام أن «كل علاقة تستطيع مع قدمها وتشابك المصالح، أن تستوعب الأخطاء، ولكن عندما تكون المصالح محدودة ولم تتسع بعد، ولا تكون العلاقة قديمة بما يكفي، فلا بد أن يترك الخطأ أثراً سلبياً. وأحياناً يكون أثر الخطأ أكبر من الخطأ نفسه، مع ذلك قبلنا الاعتذار الذي قدمه الرئيس الأمريكي، لكن رأينا أحداثاً جديدة تذكّرنا بأن الأخطاء القديمة ليست مصادفة وحسب، وبدأت شكوكنا تزيد عقب تحرير الفاو، حين بدأ الإعلام (الأمريكي) يتدخل في سياساتنا، لأننا بدأنا نتساءل فيما إذا كانت الولايات المتحدة شعرت بعدم الارتياح لنتائج الحرب مع إيران عندما حررنا بلدنا».
اشارات التحدي:
وهنا بدأ يرسل صدام إشارات التحدي حين قال: «لا نقبل تهديدات من أحد، لأننا لا نهدد أحداً، لكننا كنا نأمل أن لا تقع الولايات المتحدة في كثير من الأوهام، وأنها بالمقابل سوف تسعى لكسب أصدقاء جدد بدلاً من زيادة أعدائها. من حق الأمريكيين أن يختاروا أصدقاءهم في المنطقة، لكنكم لستم الذين حميتم أصدقاءكم خلال الحرب مع إيران، وأؤكد لكم أنه لو سيطر الإيرانيون على المنطقة فلم تكن القوات الأمريكية لتوقفهم إلا بأسلحة نووية». ويشير صدام إلى نقطة قد تبدو هي الخطأ الذي بنى عليه استراتيجيته الكاملة في أزمة الخليج، «أنا لا أقلل من شأنكم، لكن نظراً للجغرافيا وطبيعة المجتمع الأمريكي، فإن مجتمعكم لا يمكنه تحمل خسارة 10 آلاف قتيل في معركة واحدة، وتعرفون أن إيران وافقت على وقف إطلاق النار، ليس لأن الولايات المتحدة قصفت إحدى منصات تصدير النفط بعد تحرير الفاو».
ويعترف صدام بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة، لكنه في الوقت ذاته يهددها، «تريدون تدفق النفط هذا مفهوم، وتريدون السلام في المنطقة وهذا الذي نسمعه وهو مفهوم، لكن على الولايات المتحدة أن لا تعمل بالطرق التي تقول إنها لا تحبها وهي طرق الضغط واستعراض القوة. فإذا استخدمتم الضغوط، فسنستخدم الضغط والقوة. نحن نعلم أن بإمكانكم إيذاءنا حتى لو لم نكن نهددكم. لكن بإمكاننا أيضاً أن نؤذيكم. لا يمكننا الوصول إليكم في الولايات المتحدة، لكن أفراداً عرباً يمكنهم ذلك».
ردت غلاسبي بما يوحي أنها لا تحمل تعليمات جديدة من واشنطن بخصوص الأزمة بين العراق وجيرانه، لذلك أكدت على فحوى التعليمات السابقة والتي تنص على إقامة علاقات أفضل مع العراق، وأن الرئيس بوش يريد من العراق أن يسهم في السلام والازدهار في الشرق الأوسط، وقالت: «الرئيس بوش رجل ذكي ولن يشن حرباً اقتصادية على العراق».
رد صدام مذكّراً أنه ضد ارتفاع سعر النفط، وأنه في عام 1974، أوحى لطارق عزيز فكرة مقال بهذا المعنى، ينتقد فيه سياسة رفع الاسعار، «وكان هذا هو المقال العربي الأول من نوعه الذي يعبّر عن هذا الرأي» واستطرد: «25 دولاراً للبرميل الواحد ليس سعراً مرتفعاً».
غلاسبي أوضحت الموقف الأمريكي القديم من أي نزاعات عربية، فقالت: «عشت هنا لسنوات، وأُعجبت بجهودك الاستثنائية لإعادة تعمير بلدك، وأدرك أنك تحتاج للتمويل، لكن ليس لدينا رأي في خلافك مع الكويت، كانت تلك هي التعليمات في الستينات وأعاد (وزير الخارجية) جيمس بيكر تأكيدها»، وعن الحشود العراقية قرب الكويت، قالت غلاسبي: «تلقيت تعليمات بسؤالك من باب الصداقة لا المواجهة عن نياتكم»، أجاب صدام: «نريد العثور على حل عادل يعطينا حقوقنا ولا يحرم الآخرين حقوقهم». فعادت غلاسبي لتسأله: «ما تقييمكم للجهود العربية؟»، فأشاع صدام جواً من التفاؤل حول تحرك المملكة ومصر، وقرب الالتقاء مع مسؤولين كويتيين، مطمئناً الرئيس مبارك أنه لن يعتدي على الكويت، فما كان من غلاسبي إلا أن هنأت صدام على نجاح الوساطات!
الخطر لم يكن متوقعا قبل اغسطس:
قبل 2 أغسطس 1990، لم يكن خطر العراق متوقعاً لدى معظم موظفي الإدارة الأمريكية أيام بوش الأب. لكن مجموعة صغيرة من مسؤولي الدفاع توقعت ذلك. فقد حذرت دراسة بالغة السرية صادرة عن البنتاغون عام 1979 تحت عنوان «احتمالات وقوع أحداث طارئة ومحدودة في الخليج «، من أن عراقاً بـ280 ألف جندي هو ليس فقط القوة المهيمنة في المنطقة، بل هو قادر على ممارسة الضغوط على الدول الخليجية المعتدلة.
وما حاولت الدراسة تبيانه هو أنه بالإضافة إلى مشكلات العراق التاريخية مع الكويت، حدثت تطورات في المنطقة تزيد من احتمالات الخطر العراقي، فقد سقط شاه إيران الموالي لواشنطن، وانسحبت القوات البريطانية من المنطقة، وبنى العراق قواته المسلحة. وبعد توقيع اتفاقيات كمب ديفيد بين مصر وإسرائيل، بذل العراق جهوداً لإبعاد مصر عن جامعة الدول العربية، وانعقدت اجتماعات في بغداد لقوى الرفض، وبدا أن العراق يسعى لتولي دور راديكالي في العالم العربي.
واقترحت الدراسة على الولايات المتحدة أن تُشعر العراق بأنها سترد على أي اعتداء بالقوة المسلحة أكثر مما فعلته بريطانيا حين هدد العراق الكويت عام 1961 أيام عبد الكريم قاسم، وذلك عبر عرض للقوة الأمريكية في المنطقة في وقت مبكر من الأزمة وقبل بدء العدوان وبحيث يمكن تجنب التصعيد. فبالتدخل السريع للقوات الجوية وإرسال سفن الإنزال يمكن أن يردع العراقيين، ويجب إرسال حاملة طائرات واحدة على الأقل حين تشتد الأوضاع سخونة، أما مخاطر التأخر حسب الدراسة فهي كبيرة. لكن وزير الدفاع الأمريكي آنذاك هارولد براون لم يبال بالدراسة وكتب على هامشها: «كم من مرة يجب أن أقول للمحافظين، إن عليهم أن لا يعتبروا العراق تهديداً رئيسياً»، فقد كانت إيران الثورة الإسلامية بنظر براون أخطر من العراق البعثي. والمفارقة أن من صاغ الدراسة المذكورة هو بول وولفويتز مهندس الحرب على العراق 2003 ودينيس روس الذي كان قد عمل محللاً سياسياً في شؤون الشرق الأوسط في فريق عمل الرئيس رونالد ريغان والذي سيصبح مديراً للتخطيط السياسي في وزارة الخارجية مع جيمس بيكر، ثم سيمسك بملف مفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل بعد مؤتمر مدريد عام 1991.
ويكشف المؤرخ العسكري مايكل جوردان خفايا أخطر في كتابه «حرب الجنرالات» (حرب الخليج 1991)، فقد كان على القادة العسكريين الأمريكيين تحقيق نصر سريع ثم الانسحاب بأسرع ما يمكن، وأي أمر آخر كانوا يعتقدونه فخاً للقوات الأمريكية. وفي اجتماع صفوان داخل الأراضي العراقية بعد تحرير الكويت، بين وفدين أمريكي وعراقي، قدم نورمان شوارزكوف قائد المنطقة الوسطى خدمة غير متوقعة للنظام العراقي إذ سمح للطوافات العسكرية بالتحليق دون قيود، ما عدا المناطق التي يتمركز فيها الجنود الأمريكيون. وانصب اهتمام المفاوضين الأمريكيين على تأمين سلامة الجنود واستعادة الأسرى. وكان الفريق المدني في البنتاغون يشترط أن يكشف العراق كل مواقع أسلحة الدمار الشامل قبل ترتيب وقف إطلاق النار، لكن هيئة الأركان المشتركة رفضت.
الجنرال سلطان هاشم والذي كان في عداد الوفد العراقي كعضو في قيادة الأركان (وهو وزير الدفاع لدى سقوط النظام لاحقاً)، طلب الموافقة الأمريكية على تحليق الطوافات بعدما دُمرت الطرق والجسور، والتي من المفروض أن تقل رسميين ومسؤولي الحكومة. وحديثه لم يتطرق إلى الطوافات القتالية، لكن شورازكوف أكد على السماح حتى للطوافات العسكرية بالطيران شرط أن لا تحلق فوق المواقع التي يحتلها الأمريكيون. لم يصدق هاشم ما سمع فأعاد السؤال: «أنت تعني حتى الطوافات المسلحة لكن ليس المقاتلات»، أجاب شوارزكوف :»نعم»!
وكان للطوافات العراقية الدور الأكبر في سحق الانتفاضة الشيعية في الجنوب، وفي ظاهرة المقابر الجماعية. وقبل ذلك كله، كان الرئيس بوش الأب هو من دعا الشعب العراقي إلى الثورة، ثم لم يفعل شيئاً لمساعدة الثوار.
إن صدام حسين هو «مجنون الشرق الأوسط» حسب ما شاع في تلك الفترة، لكن هذا التشخيص ليس خاطئاً وحسب، بل هو خطير كما يقول جيرالد بوست، المحلل النفسي الأمريكي، والذي أفرد لصدام حسين، بدراسة سيكولوجية خاصة، إضافة إلى كتب عدة في تحليل نفسيات القادة.
ووفق تعبيره «إن حشر صدام في إطار الجنون يمكن أن يضلل صناع القرار، عبر القول إنه لا يمكن التنبؤ بأفعاله في حين أن العكس هو الصحيح». ويضيف بوست: «لو تفحصنا سجل صدام في الحكم خلال 34 سنة، لوجدنا أنه متعقل وسياسي يقوم بحساباته لدى كل خطوة، ولا يمكن اعتباره بأي معيار أنه غير عقلاني، لكنه بالمقابل خطير إلى أقصى حد، وكان صدام يبرر أفعاله المتطرفة كفعل ضروري لتحقيق المناعة الشخصية أمام التأثيرات والتهديدات الخارجية، وهكذا أصبحت كل أفعاله مبررة في سبيل مصالحه الخاصة».
الحلقة القادمة
الأمريكيون يصطادون صدام
من الحفرة
في اللقاء، تحدث صدام مطولاً عن وضع العلاقات الأمريكية العراقية بعد عام 1984، وأسباب الخلاف بين البلدين، متطرقاً إلى القضية الساخنة آنذاك بين العراق من جهة وبين الكويت والإمارات من جهة أخرى، لكن القصد الحقيقي من وراء الاستدعاء كان اختبار الموقف الأمريكي إزاء أي صراع قريب بين العراق وجيرانه العرب، وكان الرد الغامض وغير الحاسم لغلاسبي، مؤشراً كافياً لصدام حتى يقوم بمغامرته العسكرية الثانية والتي ستكون الأكثر مأساوية من المغامرة الأولى مع إيران. قيل الكثير عن لقاء صدام غلاسبي، وعن استدراج صدام إلى الفخ المنصوب بإحكام، حتى يأتي الأمريكيون بعد ذلك بجيشهم وجَلَبهم، لكن نص اللقاء بحسب ما نشرته النيويورك تايمز في 23 سبتمبر 1990 نقلاً عن المصادر العراقية الرسمية بواسطة قناة «آي بي سي»، والتي لم تعلّق على مضمونه الخارجية الأمريكية آنذاك، يكشف منهج تفكير صدام، والرسائل الضمنية التي وجهها إلى واشنطن، كما نوع العلاقات القائمة على الحذر وعدم الثقة بين البلدين، رغم الدعم الأمريكي غير المحدود لصدام في حربه ضد إيران.
قال صدام لغلاسبي: «تعرفون أن علاقتنا كانت مقطوعة مع الولايات المتحدة حتى عام 1984، وتعرفون الظروف والأسباب التي أدت إلى قطع العلاقة (حرب 1967)، وقد بينا لكم ان قرار إعادة العلاقة مع الولايات المتحدة قد اتخذ في الواقع في عام 1980، خلال الشهرين اللذين سبقا قيام الحرب بيننا وبين إيران، ولكن عندما قامت الحرب، مع ملابساتها المعروفة، ولأننا حريصون على أن نتصرف بالقضايا الكبيرة بما لا يجعل الآخرين يفسرون الأمور إلا في إطارها الصحيح، أجّلنا إعادة العلاقة على أمل أن تنتهي الحرب بسرعة. ولأن الحرب استمرت طويلاً، وتأكيداً لمبادئنا التي تقول إننا بلد غير منحاز، كان لا بد من أن نعيد العلاقات مع الولايات المتحدة فجاء التوقيت في عام 1984».
الولايات المتحدة ليست كإنكلترا مثلاً، التي لها علاقات تاريخية مع دول المنطقة ولا سيما العراق، وبسبب انقطاع العلاقات بيننا، «لا بد أن نقول إنه سيصعب على الولايات المتحدة أن تفهم الكثير من الأمور في العراق كما ينبغي، وكان مؤملاً بالعلاقة الجديدة التي استؤنفت أن نعاون بعضنا لكي يفهم كل منا الآخر، لأننا نحن أيضاً ما زلنا نجهل الكثير من الخلفيات والأمور التي يستند إليها القرار الأمريكي».
وتحدث صدام عن منغّصات العلاقة مع واشنطن، بعد إعادة العلاقات، مثلاً قضية «إيران غيت» وهي صفقة تبادل الرهائن الأجانب بالسلاح، في عام 1986، والتي حدثت في عام احتلال إيران لشبه جزيرة الفاو. ورأى صدام أن «كل علاقة تستطيع مع قدمها وتشابك المصالح، أن تستوعب الأخطاء، ولكن عندما تكون المصالح محدودة ولم تتسع بعد، ولا تكون العلاقة قديمة بما يكفي، فلا بد أن يترك الخطأ أثراً سلبياً. وأحياناً يكون أثر الخطأ أكبر من الخطأ نفسه، مع ذلك قبلنا الاعتذار الذي قدمه الرئيس الأمريكي، لكن رأينا أحداثاً جديدة تذكّرنا بأن الأخطاء القديمة ليست مصادفة وحسب، وبدأت شكوكنا تزيد عقب تحرير الفاو، حين بدأ الإعلام (الأمريكي) يتدخل في سياساتنا، لأننا بدأنا نتساءل فيما إذا كانت الولايات المتحدة شعرت بعدم الارتياح لنتائج الحرب مع إيران عندما حررنا بلدنا».
اشارات التحدي:
وهنا بدأ يرسل صدام إشارات التحدي حين قال: «لا نقبل تهديدات من أحد، لأننا لا نهدد أحداً، لكننا كنا نأمل أن لا تقع الولايات المتحدة في كثير من الأوهام، وأنها بالمقابل سوف تسعى لكسب أصدقاء جدد بدلاً من زيادة أعدائها. من حق الأمريكيين أن يختاروا أصدقاءهم في المنطقة، لكنكم لستم الذين حميتم أصدقاءكم خلال الحرب مع إيران، وأؤكد لكم أنه لو سيطر الإيرانيون على المنطقة فلم تكن القوات الأمريكية لتوقفهم إلا بأسلحة نووية». ويشير صدام إلى نقطة قد تبدو هي الخطأ الذي بنى عليه استراتيجيته الكاملة في أزمة الخليج، «أنا لا أقلل من شأنكم، لكن نظراً للجغرافيا وطبيعة المجتمع الأمريكي، فإن مجتمعكم لا يمكنه تحمل خسارة 10 آلاف قتيل في معركة واحدة، وتعرفون أن إيران وافقت على وقف إطلاق النار، ليس لأن الولايات المتحدة قصفت إحدى منصات تصدير النفط بعد تحرير الفاو».
ويعترف صدام بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة، لكنه في الوقت ذاته يهددها، «تريدون تدفق النفط هذا مفهوم، وتريدون السلام في المنطقة وهذا الذي نسمعه وهو مفهوم، لكن على الولايات المتحدة أن لا تعمل بالطرق التي تقول إنها لا تحبها وهي طرق الضغط واستعراض القوة. فإذا استخدمتم الضغوط، فسنستخدم الضغط والقوة. نحن نعلم أن بإمكانكم إيذاءنا حتى لو لم نكن نهددكم. لكن بإمكاننا أيضاً أن نؤذيكم. لا يمكننا الوصول إليكم في الولايات المتحدة، لكن أفراداً عرباً يمكنهم ذلك».
ردت غلاسبي بما يوحي أنها لا تحمل تعليمات جديدة من واشنطن بخصوص الأزمة بين العراق وجيرانه، لذلك أكدت على فحوى التعليمات السابقة والتي تنص على إقامة علاقات أفضل مع العراق، وأن الرئيس بوش يريد من العراق أن يسهم في السلام والازدهار في الشرق الأوسط، وقالت: «الرئيس بوش رجل ذكي ولن يشن حرباً اقتصادية على العراق».
رد صدام مذكّراً أنه ضد ارتفاع سعر النفط، وأنه في عام 1974، أوحى لطارق عزيز فكرة مقال بهذا المعنى، ينتقد فيه سياسة رفع الاسعار، «وكان هذا هو المقال العربي الأول من نوعه الذي يعبّر عن هذا الرأي» واستطرد: «25 دولاراً للبرميل الواحد ليس سعراً مرتفعاً».
غلاسبي أوضحت الموقف الأمريكي القديم من أي نزاعات عربية، فقالت: «عشت هنا لسنوات، وأُعجبت بجهودك الاستثنائية لإعادة تعمير بلدك، وأدرك أنك تحتاج للتمويل، لكن ليس لدينا رأي في خلافك مع الكويت، كانت تلك هي التعليمات في الستينات وأعاد (وزير الخارجية) جيمس بيكر تأكيدها»، وعن الحشود العراقية قرب الكويت، قالت غلاسبي: «تلقيت تعليمات بسؤالك من باب الصداقة لا المواجهة عن نياتكم»، أجاب صدام: «نريد العثور على حل عادل يعطينا حقوقنا ولا يحرم الآخرين حقوقهم». فعادت غلاسبي لتسأله: «ما تقييمكم للجهود العربية؟»، فأشاع صدام جواً من التفاؤل حول تحرك المملكة ومصر، وقرب الالتقاء مع مسؤولين كويتيين، مطمئناً الرئيس مبارك أنه لن يعتدي على الكويت، فما كان من غلاسبي إلا أن هنأت صدام على نجاح الوساطات!
الخطر لم يكن متوقعا قبل اغسطس:
قبل 2 أغسطس 1990، لم يكن خطر العراق متوقعاً لدى معظم موظفي الإدارة الأمريكية أيام بوش الأب. لكن مجموعة صغيرة من مسؤولي الدفاع توقعت ذلك. فقد حذرت دراسة بالغة السرية صادرة عن البنتاغون عام 1979 تحت عنوان «احتمالات وقوع أحداث طارئة ومحدودة في الخليج «، من أن عراقاً بـ280 ألف جندي هو ليس فقط القوة المهيمنة في المنطقة، بل هو قادر على ممارسة الضغوط على الدول الخليجية المعتدلة.
وما حاولت الدراسة تبيانه هو أنه بالإضافة إلى مشكلات العراق التاريخية مع الكويت، حدثت تطورات في المنطقة تزيد من احتمالات الخطر العراقي، فقد سقط شاه إيران الموالي لواشنطن، وانسحبت القوات البريطانية من المنطقة، وبنى العراق قواته المسلحة. وبعد توقيع اتفاقيات كمب ديفيد بين مصر وإسرائيل، بذل العراق جهوداً لإبعاد مصر عن جامعة الدول العربية، وانعقدت اجتماعات في بغداد لقوى الرفض، وبدا أن العراق يسعى لتولي دور راديكالي في العالم العربي.
واقترحت الدراسة على الولايات المتحدة أن تُشعر العراق بأنها سترد على أي اعتداء بالقوة المسلحة أكثر مما فعلته بريطانيا حين هدد العراق الكويت عام 1961 أيام عبد الكريم قاسم، وذلك عبر عرض للقوة الأمريكية في المنطقة في وقت مبكر من الأزمة وقبل بدء العدوان وبحيث يمكن تجنب التصعيد. فبالتدخل السريع للقوات الجوية وإرسال سفن الإنزال يمكن أن يردع العراقيين، ويجب إرسال حاملة طائرات واحدة على الأقل حين تشتد الأوضاع سخونة، أما مخاطر التأخر حسب الدراسة فهي كبيرة. لكن وزير الدفاع الأمريكي آنذاك هارولد براون لم يبال بالدراسة وكتب على هامشها: «كم من مرة يجب أن أقول للمحافظين، إن عليهم أن لا يعتبروا العراق تهديداً رئيسياً»، فقد كانت إيران الثورة الإسلامية بنظر براون أخطر من العراق البعثي. والمفارقة أن من صاغ الدراسة المذكورة هو بول وولفويتز مهندس الحرب على العراق 2003 ودينيس روس الذي كان قد عمل محللاً سياسياً في شؤون الشرق الأوسط في فريق عمل الرئيس رونالد ريغان والذي سيصبح مديراً للتخطيط السياسي في وزارة الخارجية مع جيمس بيكر، ثم سيمسك بملف مفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل بعد مؤتمر مدريد عام 1991.
ويكشف المؤرخ العسكري مايكل جوردان خفايا أخطر في كتابه «حرب الجنرالات» (حرب الخليج 1991)، فقد كان على القادة العسكريين الأمريكيين تحقيق نصر سريع ثم الانسحاب بأسرع ما يمكن، وأي أمر آخر كانوا يعتقدونه فخاً للقوات الأمريكية. وفي اجتماع صفوان داخل الأراضي العراقية بعد تحرير الكويت، بين وفدين أمريكي وعراقي، قدم نورمان شوارزكوف قائد المنطقة الوسطى خدمة غير متوقعة للنظام العراقي إذ سمح للطوافات العسكرية بالتحليق دون قيود، ما عدا المناطق التي يتمركز فيها الجنود الأمريكيون. وانصب اهتمام المفاوضين الأمريكيين على تأمين سلامة الجنود واستعادة الأسرى. وكان الفريق المدني في البنتاغون يشترط أن يكشف العراق كل مواقع أسلحة الدمار الشامل قبل ترتيب وقف إطلاق النار، لكن هيئة الأركان المشتركة رفضت.
الجنرال سلطان هاشم والذي كان في عداد الوفد العراقي كعضو في قيادة الأركان (وهو وزير الدفاع لدى سقوط النظام لاحقاً)، طلب الموافقة الأمريكية على تحليق الطوافات بعدما دُمرت الطرق والجسور، والتي من المفروض أن تقل رسميين ومسؤولي الحكومة. وحديثه لم يتطرق إلى الطوافات القتالية، لكن شورازكوف أكد على السماح حتى للطوافات العسكرية بالطيران شرط أن لا تحلق فوق المواقع التي يحتلها الأمريكيون. لم يصدق هاشم ما سمع فأعاد السؤال: «أنت تعني حتى الطوافات المسلحة لكن ليس المقاتلات»، أجاب شوارزكوف :»نعم»!
وكان للطوافات العراقية الدور الأكبر في سحق الانتفاضة الشيعية في الجنوب، وفي ظاهرة المقابر الجماعية. وقبل ذلك كله، كان الرئيس بوش الأب هو من دعا الشعب العراقي إلى الثورة، ثم لم يفعل شيئاً لمساعدة الثوار.
إن صدام حسين هو «مجنون الشرق الأوسط» حسب ما شاع في تلك الفترة، لكن هذا التشخيص ليس خاطئاً وحسب، بل هو خطير كما يقول جيرالد بوست، المحلل النفسي الأمريكي، والذي أفرد لصدام حسين، بدراسة سيكولوجية خاصة، إضافة إلى كتب عدة في تحليل نفسيات القادة.
ووفق تعبيره «إن حشر صدام في إطار الجنون يمكن أن يضلل صناع القرار، عبر القول إنه لا يمكن التنبؤ بأفعاله في حين أن العكس هو الصحيح». ويضيف بوست: «لو تفحصنا سجل صدام في الحكم خلال 34 سنة، لوجدنا أنه متعقل وسياسي يقوم بحساباته لدى كل خطوة، ولا يمكن اعتباره بأي معيار أنه غير عقلاني، لكنه بالمقابل خطير إلى أقصى حد، وكان صدام يبرر أفعاله المتطرفة كفعل ضروري لتحقيق المناعة الشخصية أمام التأثيرات والتهديدات الخارجية، وهكذا أصبحت كل أفعاله مبررة في سبيل مصالحه الخاصة».
الحلقة القادمة
الأمريكيون يصطادون صدام
من الحفرة