-A +A
كتب :د. محمد بن فهد القحطاني *
كانت هناك طفرة كبرى في القطاع العقاري بينما المزارعون يعانون فقرا لتدهور اسعار محاصيلهم.
على الرغم من ضخامة الاستثمارات التي انصبت في سوق المال الا ان المضاربين الكبار ورؤساء الشركات كانوا وراء انهيار السوق وجده انه من الضروري استعراض واقع الاقتصاد الامريكي قبل وقوع كارثة فشل السوق المالي لان ذلك يعطينا تصورا في حال وجود بوادر خلل ينذر بوقوع انهيار، كما ان استعراض المتغيرات الاقتصادية السائدة حينئذ تصف الظروف الاجمالية التي تكتنف الاقتصاد الامريكي، وفي الواقع فان الاقتصاد الامريكي بعد الحرب العالمية الاولى كان يمر بفترة رخاء وازدهار اقتصادي غير معهودة وصلت اوجها خلال اواسط العشرينات خصوصا في مجال الاستثمارات العقارية، حيث كانت هناك طفرة كبرى في مجال بيع المخططات السكنية في ولاية فلوريدا وتحقيق المضاربين في هذا القطاع ارباحا منقطعة النظير مستغلين رغبة المواطنين في شراء منازل تطل على الشواطئ ذات الاجواء المعتدلة مقارنة بأجواء الولايات المتحدة الشمالية الباردة في فصل الشتاء، هذه الارباح الطائلة والسريعة ولدت لدى الناس الرغبة الجامحة في الثراء السريع مما ساهم في الزيادة المضطردة في عدد النازحين جنوبا مدفوعين بالحصول على المكاسب الكبيرة في قطاع بيع العقارات الواعد الذي لا يتطلب مجهودا كبيرا سوى شراء الارض وتقسيمها ثم بيعها على الراغبين في انشاء مبان سكنية او تجارية، هذه الاجراءات ادت الى التوسع العمراني بشكل كبير والذي ترتب عليه ابتلاع المدن الكبرى لضواحيها، كما ان تلك الطفرة العقارية لم تبق محصورة في الولايات الجنوبية بل امتدت للولايات الشمالية كنيويورك ومدينة بوسطن التي اصبح فيها رواج عقاري يفوق الخيال.
على الرغم من هذه الطفرة العقارية المصاحبة للازدهار الاقتصادي الا انه كان هناك فقر ينتشر بين المزارعين الذين عانوا من تدهور اسعار محاصيلهم في حين لم يصاحب هذا التراجع في الاسعار اي انخفاض في التكاليف مما جعل اولئك المزارعين في وضع اقتصادي حرج لا يمكن معه الاستقرار في الانتاج، كما ان المواطنين السود الذين يقطنون الولايات الجنوبية كانوا كذلك يعانون من فقر مدقع يفتقدون فيه الى ابسط السلع الضرورية على الرغم من الطفرة الاقتصادية سالفة الذكر. وحتى الطفرة في قطاع العقار لم تستمر لوقت طويل، ففي خريف عام 1926 اصيبت ولاية فلوريدا بأعاصير مطيرة تسببت في فيضانات ادت الى قتل مئات البشر وتدمير المنازل مما اصاب قطاع العقارات بنكسة انهارت على اثرها اسعار الاراضي معلنة انتهاء الطفرة العقارية، وتزامن مع تلك الفترة بداية التحسن في سوق الاوراق المالية الذي بدأت تظهر عليه علامات الانتعاش السريع خصوصا في النصف الثاني من العام 1924 واستمر السوق في تحقيق مكاسب كبيرة خلال عام 1925 مع تراجع طفيف خلال الاشهر الثلاثة الاولى من عام 1926 الا انه لم يلبث ان تحسن بشكل كبير خلال عام 1927 هذه الزيادة المضطردة في المكاسب ادت الى دخول العديد من المستثمرين الى سوق الاوراق المالية لاجل اغتنام الفرص وتحقيق الثراء السريع ايضا.
كان هناك العديد من المتغيرات الاقتصادية على الصعيد الدولي ذات تأثير لا يمكن اهماله، فمن هذه العوامل هو قرار الحكومة البريطانية تخفيض سعر صرف الجنيه مقابل الذهب مما ادى الى اقبال المشترين على السلع البريطانية مقارنة بالسلع الامريكية، وفي المقابل زادت تدفقات الاستثمارات وارصدة الذهب الى الاسواق الامريكية بشكل كبير بحثا عن العوائد المرتفعة نسبيا مقارنة بالاسواق الاوروبية، وفي الوقت نفسه ادى تراجع اسعار الفحم الحجري في الاسواق الدولية الى تخفيض عدد العاملين في المناجم وتراجع اجورهم الذين نظموا اضرابات عن العمل خلال العام 1926.
على الرغم من ضخامة هذه الاستثمارات التي انصبت في سوق المال الامريكي الا ان المكاسب كانت في ازدياد ايضا خلال النصف الاول من العام 1928 كما انه من الملاحظ ان هناك مجموعة من كبار رجال الاعمال، من المضاربين في سوق الاسهم، والرؤساء التنفيذيين للشركات العملاقة يقومون بتنسيق جهودهم للتأثير على مجريات السوق بشكل واضح نظرا لامتلاكهم للمعلومات الاقتصادية المهمة في توجيه الاستثمارات واستطاعتهم اتخاذ القرارات الاقتصادية التي قد تخدم تلك الاستثمارات. هذا السلوك لم يكن مخالفا للقانون آنذاك، لكنه اصبح مخالفة نظامية فيما بعد يعاقب عليها القانون والتي تعرف بالمعلومات الداخلية نظرا لتأثيرها السلبي على المنافسة والعدالة بين المستثمرين.


* استاذ الاقتصاد المساعد - معهد الدراسات الدبلوماسية
mqahtani@ids.gov.sa