-A +A
حاوره: عبدالله عبيان

ناقش معالي وزير العدل ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الدكتور محمد العيسى في الحلقة الثانية من حواره مع «عكاظ»مفهوم الاختلاط ،مبينا أن عدم قدرة البعض على الاعتراف بـ «جواز الاختلاط المباح» صنع الجدل.

وزير العدل الذي لخص باب سد الذرائع في ثلاث صور ،أبدى أسفه على بعض الآراء التي انتقدت مشاركة المرأة في الزيارة الأخيرة لأمريكا ضمن وفد رسمي لإيضاح الصورة الحقيقية للمرأة المسلمة في المملكة، مبينا أن زيارة الوفود لعدد من دول الغرب تهدف إلى تصحيح المفاهيم عن عدالتنا وللإفادة من جديد الإجراءات.. وإليكم نص الحوار:

• رأستم في الفترة الأخيرة وفدا لزيارة العديد من الدول ومنها أمريكا وبريطانيا وأسبانيا، ما الهدف من تلك الجولات ؟

ــ الهدف منها واضح هو إيصال مفاهيم عدالتنا للآخرين والرد على التساؤلات الحائرة لديهم مع إفادتنا من التجربة الإجرائية في عمل المحاكم لدى تلك الدول خاصة الإجراءات التقنية ونمذجة هندسة الإجراءات وهي علوم عصرية إجرائية يهمنا أن نطلع عليها وللحق وعبر منبر «عكاظ» الإعلامي اسمح لي أخي عبدالله أن أقول لك لقد اندهش أعضاء الوفد من أن كثيراً من إجراءات بعض تلك الدول كانت أقل منا بكثير، وهو ما جعل بعض مؤسساتها القضائية تمنح وزارة العدل الشهادات والميداليات التقديرية والتي لم تقرر منحها لنا إلا بعد اطلاعهم على ما لدينا كما أفصحوا عن ذلك، والخلاصة أن هذه الزيارات كانت لتصحيح المفاهيم عن عدالتنا ولتفويت الفرصة على المغرضين وللإفادة من جديد الإجراءات.

• أعتقد أنه حصل هناك انتقاد لوجود نساء ضمن بعض هذه الوفود؟

ــ كان هذا في الزيارة الأخيرة لأمريكا وأخواتنا كن يمثلن جهاتهن حيث تم ترشيحهن من قبل مجلس الشورى ووزارة التعليم العالي لإيضاح الصورة الحقيقية للمرأة المسلمة في المملكة العربية السعودية وأنها تتمتع بكامل حقوقها الشرعية وكانت الأخوات الفاضلات ضمن نطاق وفدهن الممثل لجهاتهن وكن على مستوى عال من الأدب الإسلامي الرفيع وبحجابهن الشرعي الكامل وبكل اعتزاز منهن وبدون حرج من أحد، ولم تسافر أي منهن إلا مع أخيها أو زوجها أو ابنها وهن أربع فقط من خيرة النساء ديناً وعلماً وعقلاً، وقدمن في نطاق وفدهن الذي مثلنه ما أدهش المؤسسات الأمريكية اللاتي قمن بزيارتها ضمن برنامج الزيارة وليس لأي جهة ضمن نطاقات الوفد أي علاقة بالجهة الأخرى والوفد شمل عدة جهات لكل منها الاستقلال الكامل والتمثيل الكامل والتعبير الكامل والحر البعيد تماماً عن تمثيل الجهة الأخرى حيث شملت نطاقات الوفد عدة جهات هي الداخلية والخارجية والتربية والتعليم والعدل وديوان المظالم ومجلس الشورى والتعليم العالي، والإعلام، وهيئة مكافحة الفساد، والغرف التجارية، وهيئة المدن الاقتصادية،وغيرها، وشمل الوفد وزراء ونواب وزراء وعدداً من أصحاب الفضيلة القضاة من وزارة العدل وديوان المظالم وبعض العلماء، وقد وجه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ـ يحفظه الله ـ أن يكون الإشراف على الوفد من قبل وزارة العدل، ولقينا في أمريكا من بعض المراكز الإسلامية بطابعها الوسطي المعتدل الذي يسير على هدي السلف الصالح تقديراً وحفاوة بالغة بمجموعة الوفد أسهمت في توضيح الصورة الصحيحة عن مفاهيمنا العدلية بخاصة والإسلامية بعامة، وأوضحنا للجميع ماهية الوسطية والاعتدال الإسلامي في نصنا الشرعي وفهمنا الصحيح له على جادة أسلافنا وعلمائنا الأفاضل، وكانت الزيارة ذات شقين الشق الأول ضمن برنامج الوفد الكامل والثانية خاصة بوزارة العدل حيث كان هناك لقاءات وحوارات خاصة بالوزارة مرتب لها مسبقاً خارج نطاق البرنامج العام للوفد، والسبب في هذا أن ثمة لقاءات كانت مرتبة قبل هذه الزيارة وأجلت بسبب وفاة فقيد الجميع صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمة الله عليه.

• يعني هذا أن هناك تصوراً خاطئاً حول الموضوع ؟

ــ نعم وقد أسفت والله كثيراً للوهم في هذا ولن أقول الكذب لأني أحسن الظن بالجميع، وهو أمر غير خفي يعلمه بكامل تفاصيله أكثر من مائة شخص كانوا ضمن مجموعة الوفود ولا أقول الوفد وفي هذا الوفد كما قلت مشايخ أفاضل من وزارة العدل ومن ديوان المظالم ومن غيرهم ومن بينهم علماء شرعيون وحفظة لكتاب الله تعالى، ورحم الله امرءاً قال خيراً فغنم أو أمسك فسلم، ولو سكت من لا يعلم لاستراح الناس.

• لكن لماذا لم تبينوا هذا ؟

ــ لسبب واحد يا أخ عبدالله هو أني لم أسأل مطلقاً من أي أحد سوى منك في هذه المقابلة العاجلة في هذا المجلس الأخوي، والتي أرجو أن تنقلها بنصها تماماً كما حدثتك بها دون اختصار.

• هناك يا دكتور محمد في التاريخ الإسلامي أن النبي صلى الله عليه وسلم سافر ومعه نساء وبايعه النساء.

ــ هذا صحيح بل كانت النسوة معه صلى الله عليه وسلم في غزواته والوفود القادمة عليه والمبايعة له، لكنه صلى الله عليه وسلم لا يصافحهن ولا يرضى أن يتبذلن ولا أن يسافرن بدون محرم، خذ على سبيل المثال فقط حتى لا نطيل في هذا الموضوع: الصحابية الجليلة أم عمارة المازنية نسيبة بنت كعب، وكلنا نعرف سيرتها كانت مع الوفد الذي بايع النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة مع زوجها وابنيها وأختها، وشهدت بيعة الرضوان يوم الحديبية، كما شهدت مع زوجها وابنيها موقعة أحد، وكانوا من القلائل الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ودافعوا عنه دفاع الأبطال، وقد دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا نبي الله صلى الله عليه وسلم أتقى الخلق لربه خرج ومعه نساء لكن بتلك الضوابط والقيم الرفيعة، قَالت عائشةُ ـ رضي الله عنها ـ صنع النَّبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فرخص فيه فتنزه عنه قوم فَبلغ ذَلك النَّبِي صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد اللَّه، ثم قال: «ما بالُ أَقوامٍ يَتنزهونَ عن الشيءِ أَصنعه، فَواللَّهِ إِنى لأَعلمهُم باللَّه وأَشدهم له خشيةً»، والحديث في الصحيح.

ولن نكون والله يا أخ عبدالله أتقى ولا أزكى ولا أكثر تحفظاً ورعاية للمحارم وسداً للذرائع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعلم أنه صلى الله عليه وسلم ترك أموراً مباحة في أصلها وذلك سداً للذريعة، ومن احتاط أكثر من حد الشرع فقد يتجرأ البعض عليه ويقول إنه بهذا تعقب على الشرع وأنه من الجناية العمدية عليه، وبالمناسبة فهذا مقصدي في سياق حديث سابق ذي صلة بمثل هذا الموضوع حيث أشرنا لموضوع التعقب والجناية العمدية، لكن اختزال النص في النشر بتر عدة سياقات في الموضوع، وقد نبهت على ذلك عدة مرات.

• لكن يا شيخ محمد البعض يتحدث عن سد الذرائع في هذا الموضوع ولا يناقش هذه النصوص، ويطيل في هذا ويغلق كل شيء تقريباً والذي لو تم الأخذ به في السابق لما تعلمت المرأة اليوم كمثال فقط، فكان البعض في السابق يمنعه سدا للذريعة فيقول لا تتعلم أكثر من حاجتها الأساسية ووظيفتها الأساسية في بيتها.

ــ يمكن اختصار باب سد الذرائع في ثلاث صور نقول فيها:

الأولى: إذا كانت الذريعة تفضي للمفسدة قطعاً ويدخل في ذلك غلبة الظن لأن غلبة الظن معمول بها في الشرع فهذه الذريعة تسد بالإجماع.

والثانية: إذا كانت الذريعة تفضي للمفسدة نادراً أو أن المادة لا تقصد بعموم لذات المفسدة ولا تطرد فيها كاتخاذ العنب والتمر خمراً فهذه تلغى بالإجماع وإلا لحرمنا بيعهما.

والثالثة: إذا كانت الذريعة تفضي للمفسدة فيما بينهما فيما يعبر عنه بالعموم النسبي أو الكثرة دون الشيوع والانتشار فضلاً عن الاطراد مع تقدير اختلاف الحال في هذا من زمان لزمان ومن مكان لآخر ومثل ذلك العوائد والنيات مثل بعض العطورات التي تتركز فيها مادة الكحول أكثر من غيرها ويكثر دون شيوع أو بمجرد عموم نسبي استخدامها للسكر فهذه اختلف العلماء فيها فالمالكية والحنابلة يسدونها والشافعية والحنفية يردون الأمر لاجتهاد الحاكم بحسب الأحوال، وفي خصوص هذا المثال فإن بعض العلماء لا يرونه لأنهم يحرمون الاستعمال هنا لشيء آخر وهو نجاسة الخمرة.

وترتيباً على هذا انظر أسفار الناس في الطائرات بل وفي مواسم الخيرات للحج والعمرة معهم في نفس الرحلات بل وفي حملات الحج والعمرة نساء معهن محارمهن لمقصد يتوخى الخير والأجر والثواب، يمشين مع الناس ويتحدثن بعمومٍ بأدب الإسلام وحشمته ووقاره، دون أن تمارس اختلاطاً محرماً مع غيرها وعندما نقول هذا فنحن لا نقصد مجرد الخلوة بل يوجد اختلاط محرم لا يشك في حرمته يخرج عن حد الخلوة، وقد بينت هذا في حديث سابق لي في أكثر من صحيفة، على أني لا أحبذ أن نصطلح على الاختلاط لندخله في ألفاظنا الفقهية وإن ورد في بعض العبارات الشرعية سياقاً لا مصطلحاً، مع حذرنا في ذات الوقت من مظاهره المحرمة، والدليل على هذا أنه لو قدر أنك سألت أياً من الفقهاء السابقين عن العينة والعرايا والمزابنة والمحاقلة والغيلة لأجابك عن كل منها دونما حاجة لمزيد إيضاح ولو سألته عن الاختلاط لما عرف مقصدك منه بل لذهب إلى معان أخرى في مسائل الزكاة وغيرها، هذا مع أن فقهاءنا تحدثوا عن اختلاط الرجال مع النساء في سياق بيان الحكم الشرعي، لا تقرير المصطلح، نقول هذا احتراماً لمصطلحات الفقه الإسلامي ولا يمكن أن ندخل فيها جديداً وهي ليست من النوازل العصرية التي لم تعهد عند من سلف، فكون علمائنا لم يصطلحوا عليها ويدخلوها في حد المصطلحات الفقهية مع قيام الدواعي فخطوهم ونهجهم أسلم وأهدى، ولا يمكن في نفس الوقت أن نترك الحكم عن هذا الموضوع بل نبين حكم الشرع فيه، وهذا وغيره مما يكثر السؤال عنه لابد من بيانه ولا يسوغ لنا السكوت عنه، مع تقدير وجهات النظر الأخرى أياً كانت ما دامت في دائرة الخلاف الذي له حظ من النظر.

• إذن ما هو المحك والشيء الغائب عنا في موضوع معركة الاختلاط ؟

ــ أعتقد أننا جميعاً نحرم مظاهر الاختلاط المحرم وأنا أؤكد على كلمة المحرم الذي لا يمكن أن تجيزه فطرة سليمة ،فضلاً عن أن يحتج أحد لذلك بنص، لكن المحك هو في عدم قدرة البعض أن يقول: إن هناك اختلاطا جائزا وإن هناك اختلاطا محرما، مع أنه هو نفسه يباشر الجائز في حياته اليومية بل ولا يستطيع العيش مع الناس مطلقاً بدون هذا الاختلاط وهو يعلم ذلك لكنه يكابر في الحكم أو أنه يخشى من التفصيل لشناعة لفظة الاختلاط عنده ولو كان في صورته الجائزة باتفاق، وهذا الاختلاط الجائز يُدخله صاحبنا في نطاق توصيفه لمفهوم الاختلاط وهو وجود المرأة في مشهد الرجل ثم هو بعد ذلك يقول الاختلاط بوجه عام محرم، فإذا خرج صاحبنا من تناقضه في لفظه وتناقضه في تصرفه وعمله اليومي، وقال هذا اختلاط جائز وهذا اختلاط محرم اتفقنا جميعاً ولم نختلف أبداً، لأننا كلنا لا نجيز ما يتحفظ عليه صاحبنا من جهة مباشرته له، ومن منا مثلاً يجيز اختلاط الغير في تغريبه النصراني أو تشريقه الوثني بجامع التوجه العلماني في كل لا أحد أبداً، انظر مثلاً الاختلاط في الأسواق وقد دعيت المرأة للشهادة على المبايعات بنص الكتاب الكريم ولولا أنها تختلط مثل هذا الاختلاط المباح لما استشهدت بل فيما سبق ذكرت أن من محققي أهل العلم فيما يتعلق بسفر النساء مع الرجال من أجاز سفرها للحج مع الرفقة الصالحة وإن لم يكن معها محرم فهل نقول إنها سافرت مع وفد الرجال وهذا منكر، هذه أمور مهمة يحصل فيها خلط كبير وما أحسن التسديد والمقاربة والنظر للأمور من جميع الزوايا حتى لا نسيء لأنفسنا ولديننا ولغيرنا أيضاً.