رغم الاجواء العاصفة في سوق الاسهم وسوق السياسة العربية، فقد حملت الايام القليلة الماضية بضعة اخبار تبعث على التفاؤل والارتياح. ويهمني من بين هذه الاخبار السارة (القليلة هذه الايام) اعلان عدد من الدول العربية رغبتها في بدء مشروعات نووية بغرض البحث العلمي كما هو الحال في المغرب ودول الخليج او اعتماد الطاقة النووية كمصدر للكهرباء كما هو الحال في مصر والاردن.
ويتماشى هذا التوجه مع تيار متصاعد في العالم يدعو للعودة الى اعتماد الطاقة النووية كمصدر مضمون ورخيص نسبيا للكهرباء بعد توقف دام ما يقرب من عقد، اثر انفجار المفاعل النووي الروسي في شرنوبيل سنة 1998. ولعل ابرز المؤشرات على هذه العودة هو اعلان عدد من الدول الرئيسية مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين واليابان عزمها انشاء محطات نووية جديدة، واعلان الادارة الامريكية سياسة جديدة لتشجيع الانتشار النووي السلمي من خلال تخفيف القيود المفروضة على تصدير التكنولوجيا ودعم العقود الاجنبية التي تجريها شركات امريكية متخصصة في اقامة المفاعلات النووية.
طبقا لوكالة الطاقة الذرية الدولية فان المحطات النووية توفر نحو 16 بالمائة من الطاقة الكهربائية التي يستعملها العالم اليوم. وثمة مبررات معقولة وراء هذا الاتجاه اهمها كما ذكر المدير العام للوكالة هو القلق من «ارتفاع درجة حرارة الارض وارتفاع مستوى البحر وتطاول فترات الجفاف، فضلا عن زيادة العواصف الرعدية». وتتهم محطات الطاقة التقليدية بكونها مساهما رئيسيا في هذه الظواهر. الا ان ارتفاع اسعار البترول في السنوات الاخيرة يبدو سببا اكثر قوة وراء الاتجاه الجديد.
كان العالم العربي قد بدأ الاهتمام بالطاقة النووية قبل اكثر من خمسين عاما حين اقامت مصر معمل ابحاث في مطلع الستينات، تلاه آخر في نهاية التسعينات. الا ان البرنامج المصري لم يحظ باهتمام يذكر كما عانى على الدوام مشكلة في التمويل، وطبقا لباحثين مصريين فان المشكلة الرئيسية تكمن في عدم وضوح المكان الذي يشغله هذا البرنامج ضمن الخريطة العامة للبحث العلمي في البلاد وعدم توفر الارادة السياسية اللازمة لوضعه في مكانه السليم وتوفير مستلزماته.
وقد عادت مصر في سبتمبر الماضي الى اعلان رغبتها في تنشيط ذلك البرنامج، كما اعلنت المغرب انها قد تعاقدت فعلا مع شركة امريكية لبناء معمل ابحاث نووي قد يفتتح خلال العام الجاري. وتسعى الاردن من جانبها للحصول على دعم امريكي لبناء محطة لتوليد الكهرباء، سعيا وراء تخفيض فاتورة الواردات النفطية المرهقة.
اهتمام دول الخليج بالطاقة النووية ينصب في الدرجة الاولى على البحث العلمي. ويقول بعض المختصين ان برنامجا نوويا نشطا يمكن ان يساعد في تطوير ما يزيد عن 900 حقل من حقول التكنولوجيا العالية، وتوفير الالاف من التطبيقات المعقدة في ميادين مختلفة تتراوح من الطب الى الزراعة والصناعة. ان محطة نووية هي في حقيقة الامر مدينة صناعية صغيرة تضم بين اسوارها عشرات النشاطات الصناعية والعلمية، ويمكن لها ان تلعب دور الدينامو المحرك للتطور العلمي والتقني في اي بلد.
من هذه الزاوية فان الاعلان عن الرغبة في دخول النادي النووي يتطلب عملاً جاداً يستهدف بصورة محددة وضع استراتيجية طويلة الامد ومتكاملة للبحث العلمي في البلاد وفي منطقة الخليج بصورة عامة. قد تستطيع أية دولة امتلاك محطة نووية يبنيها لها الآخرون ويعملون فيها، فلا يربطها بتلك الدولة صلة غير كونها قائمة على أرضها. وفي هذه الحالة فان الدعاية ستكون الفائدة الوحيدة التي تجنيها من وراء محطة كهذه. إن منظر محطة هائلة الحجم مليئة بالآلات والأجهزة الغريبة الشكل هو غذاء دسم للصحافة والتلفزيون. لكن هذا لا يستحق استثمارا يتجاوز سبعة مليارات ريال. لكن بكل تأكيد سوف تجني أية دولة فوائد تستحق هذا المبلغ وربما اضعافه اذا استثمرت هذه الفرصة التاريخية في اطلاق حركة علمية متصاعدة، تتناغم مع الاتجاهات السائدة والمستقبلية في ميدان البحث العلمي، وتتجه في الوقت نفسه الى سد حاجات البلد الملحة، التي تعالجها اليوم معظم الدول باستيراد التكنولوجيا والخبرات من كل مكان. اي التعامل مع التكنولوجيا كسلعة بدل التعامل معها كمعرفة قابلة للتطوير واعادة الانتاج ضمن الشروط الخاصة للبيئة المحلية.
توطين التكنولوجيا والعلم لا يتحقق بمقال يكتبه مفكر او تصريح منمق يقوله مسؤول حكومي او اكاديمي. الاقطار التي سبقتنا في هذا المضمار، ومنها دول حديثة العهد بهذا الامر مثل كوريا الجنوبية وتايلاند وماليزيا، لم تكتف باعلان النوايا ولا استيراد التقنيات والمعارف، بل وضعت خططا واسعة وبرامج تطبيقية وانفقت اموالا، وافسحت مساحة واسعة للعلماء والمفكرين والباحثين والخبراء. وكان من وراء ذلك كله ارادة سياسية قائمة بذاتها، ولم تتغير مع تغير الاشخاص او اختلاف حجم المداخيل.
نحن بحاجة الى استراتيجية للعلم تؤكد على استقلالية البحث العلمي وحريته وتوفير الحد الاقصى من الضمانات الضرورية للباحثين، وضمان الضخ المنتظم للتمويل من دون رهنه للتنظيم البيروقراطي الذي يبيع الثلج في الشتاء لأن المدير لم يوقع اوراق البيع قبل الخروج في اجازته الصيفية.
يمكن للبرنامج النووي الذي اعلنت عنه القمة الخليجية ان يكون شيئا مختلفا حقا، ان يكون بداية لنهضة علمية ينشدها جميع اهل البلاد، شرط ان يسبقها ويرافقها عمل جاد لوضع استراتيجية شاملة للنهوض بالعلم، يشكل البرنامج النووي جزءاً متكاملاً منها، لا حلقة منفصلة غرضها الابرز هو التباهي بان لدينا «محطة» مثل محطات الآخرين.
talsaif@yahoo.com
ويتماشى هذا التوجه مع تيار متصاعد في العالم يدعو للعودة الى اعتماد الطاقة النووية كمصدر مضمون ورخيص نسبيا للكهرباء بعد توقف دام ما يقرب من عقد، اثر انفجار المفاعل النووي الروسي في شرنوبيل سنة 1998. ولعل ابرز المؤشرات على هذه العودة هو اعلان عدد من الدول الرئيسية مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين واليابان عزمها انشاء محطات نووية جديدة، واعلان الادارة الامريكية سياسة جديدة لتشجيع الانتشار النووي السلمي من خلال تخفيف القيود المفروضة على تصدير التكنولوجيا ودعم العقود الاجنبية التي تجريها شركات امريكية متخصصة في اقامة المفاعلات النووية.
طبقا لوكالة الطاقة الذرية الدولية فان المحطات النووية توفر نحو 16 بالمائة من الطاقة الكهربائية التي يستعملها العالم اليوم. وثمة مبررات معقولة وراء هذا الاتجاه اهمها كما ذكر المدير العام للوكالة هو القلق من «ارتفاع درجة حرارة الارض وارتفاع مستوى البحر وتطاول فترات الجفاف، فضلا عن زيادة العواصف الرعدية». وتتهم محطات الطاقة التقليدية بكونها مساهما رئيسيا في هذه الظواهر. الا ان ارتفاع اسعار البترول في السنوات الاخيرة يبدو سببا اكثر قوة وراء الاتجاه الجديد.
كان العالم العربي قد بدأ الاهتمام بالطاقة النووية قبل اكثر من خمسين عاما حين اقامت مصر معمل ابحاث في مطلع الستينات، تلاه آخر في نهاية التسعينات. الا ان البرنامج المصري لم يحظ باهتمام يذكر كما عانى على الدوام مشكلة في التمويل، وطبقا لباحثين مصريين فان المشكلة الرئيسية تكمن في عدم وضوح المكان الذي يشغله هذا البرنامج ضمن الخريطة العامة للبحث العلمي في البلاد وعدم توفر الارادة السياسية اللازمة لوضعه في مكانه السليم وتوفير مستلزماته.
وقد عادت مصر في سبتمبر الماضي الى اعلان رغبتها في تنشيط ذلك البرنامج، كما اعلنت المغرب انها قد تعاقدت فعلا مع شركة امريكية لبناء معمل ابحاث نووي قد يفتتح خلال العام الجاري. وتسعى الاردن من جانبها للحصول على دعم امريكي لبناء محطة لتوليد الكهرباء، سعيا وراء تخفيض فاتورة الواردات النفطية المرهقة.
اهتمام دول الخليج بالطاقة النووية ينصب في الدرجة الاولى على البحث العلمي. ويقول بعض المختصين ان برنامجا نوويا نشطا يمكن ان يساعد في تطوير ما يزيد عن 900 حقل من حقول التكنولوجيا العالية، وتوفير الالاف من التطبيقات المعقدة في ميادين مختلفة تتراوح من الطب الى الزراعة والصناعة. ان محطة نووية هي في حقيقة الامر مدينة صناعية صغيرة تضم بين اسوارها عشرات النشاطات الصناعية والعلمية، ويمكن لها ان تلعب دور الدينامو المحرك للتطور العلمي والتقني في اي بلد.
من هذه الزاوية فان الاعلان عن الرغبة في دخول النادي النووي يتطلب عملاً جاداً يستهدف بصورة محددة وضع استراتيجية طويلة الامد ومتكاملة للبحث العلمي في البلاد وفي منطقة الخليج بصورة عامة. قد تستطيع أية دولة امتلاك محطة نووية يبنيها لها الآخرون ويعملون فيها، فلا يربطها بتلك الدولة صلة غير كونها قائمة على أرضها. وفي هذه الحالة فان الدعاية ستكون الفائدة الوحيدة التي تجنيها من وراء محطة كهذه. إن منظر محطة هائلة الحجم مليئة بالآلات والأجهزة الغريبة الشكل هو غذاء دسم للصحافة والتلفزيون. لكن هذا لا يستحق استثمارا يتجاوز سبعة مليارات ريال. لكن بكل تأكيد سوف تجني أية دولة فوائد تستحق هذا المبلغ وربما اضعافه اذا استثمرت هذه الفرصة التاريخية في اطلاق حركة علمية متصاعدة، تتناغم مع الاتجاهات السائدة والمستقبلية في ميدان البحث العلمي، وتتجه في الوقت نفسه الى سد حاجات البلد الملحة، التي تعالجها اليوم معظم الدول باستيراد التكنولوجيا والخبرات من كل مكان. اي التعامل مع التكنولوجيا كسلعة بدل التعامل معها كمعرفة قابلة للتطوير واعادة الانتاج ضمن الشروط الخاصة للبيئة المحلية.
توطين التكنولوجيا والعلم لا يتحقق بمقال يكتبه مفكر او تصريح منمق يقوله مسؤول حكومي او اكاديمي. الاقطار التي سبقتنا في هذا المضمار، ومنها دول حديثة العهد بهذا الامر مثل كوريا الجنوبية وتايلاند وماليزيا، لم تكتف باعلان النوايا ولا استيراد التقنيات والمعارف، بل وضعت خططا واسعة وبرامج تطبيقية وانفقت اموالا، وافسحت مساحة واسعة للعلماء والمفكرين والباحثين والخبراء. وكان من وراء ذلك كله ارادة سياسية قائمة بذاتها، ولم تتغير مع تغير الاشخاص او اختلاف حجم المداخيل.
نحن بحاجة الى استراتيجية للعلم تؤكد على استقلالية البحث العلمي وحريته وتوفير الحد الاقصى من الضمانات الضرورية للباحثين، وضمان الضخ المنتظم للتمويل من دون رهنه للتنظيم البيروقراطي الذي يبيع الثلج في الشتاء لأن المدير لم يوقع اوراق البيع قبل الخروج في اجازته الصيفية.
يمكن للبرنامج النووي الذي اعلنت عنه القمة الخليجية ان يكون شيئا مختلفا حقا، ان يكون بداية لنهضة علمية ينشدها جميع اهل البلاد، شرط ان يسبقها ويرافقها عمل جاد لوضع استراتيجية شاملة للنهوض بالعلم، يشكل البرنامج النووي جزءاً متكاملاً منها، لا حلقة منفصلة غرضها الابرز هو التباهي بان لدينا «محطة» مثل محطات الآخرين.
talsaif@yahoo.com