-A +A
نجيب الخنيزي
إذا كان هناك علاقة وثيقة بين الفساد والفقر وفقا لتقرير منظمة الشفافية العالمية، فإن هناك تلازما ما بين الفساد من جهة والاحتلال والحروب الأهلية والاستبداد من جهة أخرى. حيث يقوم الاحتلال بتفكيك مقومات ومكونات الدولة الواقعة تحت الاحتلال، سواء على صعيد البناء القانوني/ الدستوري، والمرافق والمؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية، والأجهزة العسكرية والأمنية، أو إعادة تشكيلها وفقا لمقتضيات مصالحه، واستهدافاته، كما هو حاصل في العراق التي جاءت في ذيل (لم يسبقها سوى هايتي) القائمة وكذلك الحال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والأمر ذاته ينطبق على الحروب الأهلية والصراع الداخلي، ففي مثل تلك الأوضاع تكون الكلمة الفصل لقوى الاحتلال، والأجهزة العسكرية والأمنية القائمة، أو المشكلة، وكذلك للجماعات والمليشيات المسلحة، وللعصبيات القبلية، والطائفية، والإثنية، والعائلية القوية التي تطفو على السطح، والتي توظف هيمنتها، وصراعها، ووجودها من اجل الحصول على اكبر قدر ممكن من الغنيمة، وهو ما جرى ويجري في لبنان والجزائر واليمن والسودان والصومال ودول افريقية وآسيوية، وهكذا في البلدان التي يضعف أو ينعدم فيها حكم القانون والضوابط الدستورية، وتشل أجهزة الرقابة والمساءلة والمحاسبة، ويسود الاستبداد، واحتكار مقومات السلطة والثروة والقوة من قبل فئات متسلطة على رقاب الوطن والشعب، وهذه الحالات حدثت وتحدث بدرجات مختلفة في معظم بلدان العالم الثالث ومن بينها البلدان العربية، وهو ما أظهرته بيانات منظمة الشفافية العالمية. لمناقشة قضية الفساد، لابد من طرح التساؤلات التالية: ما هي الأسباب والعوامل التي تكمن وراء استشراء وتفاقم ظاهرة الفساد في معظم المجتمعات الغنية والفقيرة، المتقدمة والمتخلفة على حد سواء؟ ولماذا احتل موضوع الفساد هذا الحيز الواسع من اهتمام ومتابعة الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي بمنظماته وهيئاته الرسمية والأهلية المستقلة؟ وكيف أصبح شعار وموضوع مكافحة الفساد في مقدمة الأهداف والبرامج للأحزاب السياسية والمنظمات النقابية والمهنية والحقوقية وكافة تكوينات المجتمع المدني ناهيك عن وسائل الإعلام المختلفة؟ ولماذا نجد العديد من الحكومات التي كانت تبدو قوية وراسخة قد انهارت وتفككت تحت وطأة تفشي الفساد في مفاصل الدولة والمجتمع؟
في الواقع الفساد ظاهرة قديمة ،وتعود تاريخيا إلى المراحل الأولى لتشكل المجتمعات (العمران البشري) والحضارات والدول، وكان متضمنا للصراع بين الخير والشر، الحق والباطل، العدل والظلم، الحرية والاستبداد. وقد احتل موضوع الفساد حجر الزاوية في النظام الأخلاقي/ القيمي لجميع الحضارات والأديان، وفي مقدمتها الإسلام قال تعالى « ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين» الآية. غير أن هذه الظاهرة (الفساد) في ظل نظام العولمة، بمضامينها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية، أخذت بعدا متقدما وحضورا قويا على المستويين العالمي والمحلي، وإذا كان القرن العشرون المنصرم، سجل خروج أو انتقال العديد من الشخصيات والقادة من المعتقلات إلى الرئاسة وسدة الحكم، فإنه قد شهد أيضا سقوط وخروج العديد من الزعماء والحكام من سدة السلطة والزعامة إلى المعتقلات أو المنافي، أو ملاحقين بتهم جنائية وقضايا فساد وتجاوزات وانتهاكات لحقوق الإنسان والحريات الديمقراطية، والقائمة طويلة، وستطول مادام هناك ظلم وقهر ونهب وسرقة وتعد على حقوق الشعب وممتلكات الوطن. شيوع الفساد والرشوة وانتشار الجريمة المنظمة، وتزايد سطوة المافيا وتحكمها في المفاصل الأساسية للاقتصاد، وعالم المال، وتجارة المخدرات والجنس والعمالة وتبييض الأموال، التي غدت قضايا مترابطة ومشكلة عالمية يعاني منها الجميع في البلدان الصناعية المتطورة (الشمال) أو في البلدان المتخلفة (الجنوب) في الآن معا. في العديد من الدول المتقدمة والصناعية، أو الدول الانتقالية، والناشئة والنامية على حد سواء، أصبح الفساد والرشوة جزءا لا يتجزأ من النسق السياسي/الاقتصادي/الاجتماعي في أعلى درجاته، والذي يعبر عنه التحالف شبه المعلن بين رجال المال، والسياسة والمافيا، وقد أدى كشف وافتضاح بعضها، إلى الإطاحة برؤساء دول وحكومات وزعماء ووزراء ومسؤولين كبار، كما حدث في فرنسا وايطاليا واليابان والولايات المتحدة وروسيا ودول المعسكر الاشتراكي سابقا وتركيا وإسرائيل وكوريا الجنوبية واندونيسيا وماليزيا وتايوان والفلبين وغيرها، أما في دول القارة الأفريقية، والقارة الأمريكية الجنوبية، حيث سادت ولفترة طويلة الأنظمة العسكرية والديكتاتورية في معظمها، فقد حول الجنرالات والقادة الفاسدون بلدانهم إلى مزارع خاصة لهم ولبطانتهم ،على حساب الأغلبية الساحقة من الشعب، الذين يرزحون تحت وطأة الفقر والبطالة والجوع والمرض والقمع والإرهاب وانعدام اليقين والأمل في المستقبل. وفي الواقع فإن قضايا الفساد لم تعد تقتصر على الدول والحكومات والشركات متعددة الجنسيات، بل طالت المنظمات غير الحكومية، وهو ما اجبر المفوضية الأوروبية على تقديم استقالة جماعية قبل بضع سنوات، بما في ذالك عضوة المفوضية رئيسة وزراء فرنسا السابقة أديث كريسون. الفساد في الدول والمجتمعات الديمقراطية موجود، وعلى نطاق غير محدود، غير أن انتشار القيم، والمبادئ والتشريعات الديمقراطية، وتجذر مفاهيم حقوق الإنسان، وفعالية وسائل الإعلام، وقوة الرأي العام، والاستقلال الحقيقي للقضاء، كفيل بحصر واحتواء وفضح ومعاقبة المتلاعبين والمتورطين أيا كانت مواقعهم.

لقد تنبه العالم والمجتمع الدولي، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، إلى تصاعد الخطورة التي يمثلها الفساد على الاستقرار، والسلم الأهلي، والتماسك الاجتماعي، ونظام القيم والأخلاق في العالم. لذا أصدرت قرارا مهما حول وجوب مكافحة الفساد على المستوى الدولي وقد تشكلت في عام 1993(منظمة الشفافية الدولية) ومقرها برلين، وعقدت عددا من المؤتمرات، من بينها مؤتمر في نهاية عام 1998 في بروكسل تحت شعار «في سبيل مناخ تجاري خال من الفساد». وفي شهر ديسمبر 2006 عقد في عمّان (الأردن)، المؤتمر الأول للدول الأطراف في اتفاق الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، الذي اعتمد عام 2000 ودخل حيز التنفيذ قبل سنة، وتتضمن تلك الاتفاقات بنودا مهمة مثل حماية الدول للأموال من الفساد، وكيفية تقديم الدعم اللوجستي، والقانوني، والقضائي، والعملي لمكافحة الفساد والضالعين فيه وتقديمهم للعدالة.