جدة المدينة الساحلية عروس البحر الأحمر اكبر ما يشغل أهلها هذه الأيام ومن السابق أيضا هو كيفية توفير المياه لمنازلهم فأزمة المياه التي باتت تعاني منها هذه المدينة الحالمة في كل عام وان تضاعفت جراحها في هذا العام جعلني أستعيد ماضي هذه المدينة التي تعددت مصادر حصولها على الماء وطرق تخزينها له وتأتي الصهاريج كأبرزها والتي ما زال بعضها قائما حتى الآن وان كان أشهرها هو صهريج العيدروس فيما كانت البازانات من أهم مصادر المياه في جدة. قبل انشاء العين العزيزة التي تعتبر وقفا من الملك المؤسس عبدالعزيز يرحمه الله لأهالي جدة كما جاء في كتاب عبدالقدوس الأنصاري عن جدة انه بدأ في المشروع بمنتصف عام 1365هـ وبعد عام ونصف العام وصل الماء في الأنابيب بعد أن كانت المياه تُجلب إلى جدة من بحرة والجموم ووادي فاطمة على ظهر الحمير والبغال حتى جاء عام 1325هـ الذي أعلن فيه عن انشاء أول تحلية التي كان يسميها أهل جدة الكنداسة والتي تعطلت بسبب إيقاد الحطب عليها بدلا من الفحم الحجري الذي انقطع عنها في عام 1343/1344هـ وفي عام 1948هـ أنشأت الدولة يرعاها الله أول محطة لتحلية مياه البحر كأول الحلول لمشاكل جدة مع المياه والتي على ضوء تلك المحطة انشئت عدة بازانات.
والبازان للذي لا يعرفه هو مكان للسقاية وهو عبارة عن شبكة مياه بها مواسير تسمى «أشياب» يتدفق منها الماء لتعبئة برميل حديدي مشبوك بعجلتين وحمار.
وفي البازان أيضا بعض «البزابيز» المخصصة لتعبئة «الزفة» والمقصود هنا ليست زفة العروس إنما هي صفيحتان من التنك (تنك السمن) يوضع فيهما الماء وتتصلان هاتان الصفيحتان بعضهما البعض بواسطة قصبة من الخشب تسمى عود «الزفة» أو «البومبة» وهي عصا غليظة في طرفيها سلسلتان من حديد لتعليق الصفيحتين فوق كتفي السقا.
وللبازان مسؤول يسمى شيخ البازان له الكلمة العليا ولا يستطيع من كان أن يثني له كلمة أو يكسرها.
أصل البازانات
وأصل كلمة بازان يقال انها كلمة تركية وهي مرتبطة باسم مهندس تركي قام بتصميم شبكة المياه لسقاية الناس والبعض ألمح إلى خلاف ذلك وأعادها إلى عام 1326هـ عندما أرسل فيه احد أمراء المغول في العراق أحد العاملين عنده واسمه بازان لإعادة إصلاح خط المياه المدمر.
ومع ذلك فهذه البازانات كانت وما زالت أشهر من نار على علم في جدة والتي أُلغيت قبل قرابة 30 عاما بسبب توسع المدينة وتوفر شبكة المياه التي دخلت البيوت بدلا من السقا الذي كان يجلب الماء من بازانات الكندرة وحارة اليمن والبغدادية وحارة المظلوم والقشلة وكيلو 3 بطريق مكة والنزلة الشرقية ومدائن الفهد وغليل والهنداوية والسبيل وهذه البازانات صغرت أم كبرت لم تظهر في وقت واحد وإنما ظهرت حسب الحاجة وحسب الامكانات وان كان أشهرها بازان العيدروس وبازان السبيل والأخير رغم أن معالمه مازالت قائمة حتى الآن لكن لم يبق من تاريخه سوى العم احمد قدح الذي ما أن أغلق البازان حتى امتهن تحبيل الاسرة (جمع سرير) لينام الناس عليها بعد أن أراحهم سنين وهو يجلب الماء لهم مرة بحماره وأخرى بزفته التي كان يحملها فوق كتفه.
صفوة المجتمع
فبازان السبيل القريب من قصر الملك سعود «قصر خزام» الذي يقع في شارع بشار بن برد الذي كان يوما من اشهر شوارع هذا الحي بسبب قاطنيه الذين كانوا من صفوة المجتمع مثل قصر الأميرة الجوهرة وقصر الأمير عبدالله بن سعد وبيت عبدالله بحلس وبيت المعمر وبيت الشيهون وبيت الحمودي وبيت عبدالرحمن بن سعيد والسفارة النيجيرية فهذا البازان كان يوما روضة من رياض الدنيا ليس بأشجاره إنما بهوائه البارد وتحول اليوم إلى ساحة بيضاء ما أن تهب نسمة ريح فيه حتى تتطاير أتربته وغباره إلى عيون المارة هذا الشعور أحسست به وأنا أقف فيه واسترجع الماضي الذي كنت فيه كبقية أقراني في تلك الفترة صغير السن.. كنا نجلس أمام جدار يظللنا من أشعة الشمس فيما كنا نستمتع برؤيتنا للحمير وللسقايين ولتدفق الماء في الزفات أو البراميل وان كانت متعتنا الحقيقية هي أن نركب فوق الحمير لنقود السقا إلى بيوتنا رغم انه كان احد سكان حينا.
وعلى الرغم من أن شيخ البازان (الشيخ زقر) يرحمه الله كان أحد سكان الحي ويعرف كل من فيه كان لا يسمح بتاتا بخروج برميل ماء أو زفة ماء ما لم نأته ونجلس في الطابور كنظام متبع لديه لا يمكن إغفال ومهما كان الأمر فقد كان الشيخ زقر لا يفرق بين كبير أو صغير.
بازان السبيل
وكان بازان السبيل -وحسب كلام العم احمد قدح- هو عبارة عن أرض فسيحة البيوت من حوله وهو يتوسطها وكان كل السقايين فيه وفي كل البازانات هم من الجنسية اليمنية يعملون فيه من بعد صلاة الفجر حتى ما قبل العشاء وهو موعد إغلاق المياه بواسطة مأمور العين العزيزية وهو شخص موكل بفتح وإغلاق محبس الماء الذي يفتحه مع الأذان الأول لصلاة الفجر ويغلقه مع أذان العشاء وكان كل سقا منا يدخل البازان وهو يقول «سرا» وهي كلمة لتنبيه الآخرين بوجوده ولتأمين دوره بينهم.
ويبدو أن العم احمد أراد تذكيري بهذه الكلمة «سرا» التي جعلتني يوما اذرف الدمع رغم صغر سني ولم يسكت بكائي سوى حلوى العم زقر ففي ذلك اليوم دخلت البازان وأنا أقول سرا وقد حسبني بعض السقايين انني بديلا لأحدهم أو لحين وصوله فقد كان مثل هذا الأمر عاديا ومعروفا عند الجميع طالما ان العربة والحمار معروفان عند شيخ البازان وحتى عند السقايين وعندما حان دوري بقيت في مكاني جالسا عندها اقترب مني احدهم وعرف أنني كنت امزح وألهو فلطمني كفا لم أنسه حتى اليوم.
فكلمة سرا والكلام هنا للعم احمد قدح هي مفتاح دخولهم للبازان ومفتاح وصولهم ووقوفهم تحت أشياب «البزابيز» ويعود بذاكرته لأيام زمان ويقول كنا في ذلك الوقت لا نزيد عن العشرين سقا وكان كل منا يقف بحماره في اليوم الواحد تحت تلك الأشياب مابين 8 – 10 مرات (ردود) كنا نبيع الرد الواحد بريال ونصف ولا يزيد عن الريالين أما الزفة فقد كنا نبيعها بـ 4قروش رغم تعبها الشديد التي تحتاج إلى قوة جسمانية لحملها وهذا هو سبب قلة العاملين فيها - يصمت قليلا مسترجعا الماضي وهو يبتسم ويقول - كانت الناس في تلك الأيام طيبة جدا يميزها صدق المعاملة فالظروف المادية في ذلك الوقت لم تكن متوفرة لكل شخص بسهولة ولذلك كنا نورد الماء للبيوت بالدفع الآجل فأكثر بيعنا للماء بالدين الذي يتم تقييده من خلال «شخط» خط يكتب على الجدران من الداخل في كل بيت بقطعة من فحم بعدد براميل وزفات الماء التي أوردناها دون أن يخطر على بالنا أن صاحب الدار بإمكانه أن يمسحها أو يتلاعب بها فالثقة المتبادلة كانت عنوان تعامل بعضنا البعض.
وكان إذا مرض احد السقايين أو تعب استعان بزميل له في إيصال الماء إلى زبائنه فقد كان ممنوعا أن يتعدى احدنا على زبائن الآخر وهو عرف متبع في جميع البازانات إضافة إلى أن الشيخ زقر الذي كان يتقاضى راتبه من العين العزيزية والذي كانت له هيبة كبيرة وقوية عند الصغير وعند الكبير كان لا يسمح بذلك رغم انه كان ينظم العمل داخل البازان وهو جالس فوق كرسيه المحبل (القعادة) بداخل غرفته والتي كان بابها وشباكها يطلان على ساحة البازان ، فالباب كان يطل على موقع تعبئة زفات الماء فيما كان الشباك يطل على أشياب المياه وكان زقر يجلس معتما بعمامته وفي يده عصا غليظة لا تفارقه وكان صوته يعلو بين الحين والآخر على فلان أو علان بان يستعجل في تعبئة برميله أو يخرج بحماره من البازان فيما كان السيد حمود يرحمه الله يجلس بالقرب من تلك الغرفة ليبيع لنا الشاي والقهوة وفي يوم الجمعة يتحول إلى جزار لبيع اللحمة كنا نشتري منه كل حسب احتياجه فمنا من يشتري ربع كيلو ومنا من يشتري ثمن كيلو وبعضنا من يسر الله عليه كان يشتري نصف كيلو أو كيلو والدفع حاله حال السقايين بالدين.
وكان بالقرب من السيد حمود يجلس عثمان قبيع الذي اشتهر ببيع وتصليح عربات الحمير وهي عبارة عن لوحين خشبيين مشبكين بهما إطاران (كفران) يوضع عليهما برميل الماء وكان القبيع يبيع (العربية) الواحدة بما لا يزيد على ريال فيما كان سعيد الحضرمي الذي امتهن صناعة وتصليح براميل الماء يجلس في مكان آخر من البازان ليبيع البرميل الواحد بما لا يزيد ولا يقل كثيرا عن 100 ريال، وكنا نشتري الحمير من حراج البهائم في العيدروس بين 300 – 500 ريال للحمار الواحد.
نظام صارم
وكان في البازان سقيفة فيها بعض الأسرة المكسرة كنا نجلس فوقها أو ننام عليها لحين مجيء دورنا وفي كثير من الأحيان كنا نأتي بفطورنا من بيوتنا أو يأتي به إلينا أحد أبنائنا ورغم قلته كنا نجتمع حوله وكل واحد منا يأكل لقمة منه ويقوم حامدا وشاكرا الله على نعمته وإذا حل بنا العيد ارتدينا ملابسنا وصلينا وعايدنا بعضنا البعض ثم توجهنا إلى البازان لنعمل ولنعيد على شيخنا زقر الذي كان يحتفي بنا والذي كان يجامل بعضنا أحيانا بالسماح له بدخول البازان بعيدا عن أي سرا لأننا كنا نبادله المجاملة ففي بعض الأحيان كان بعض من عليّة القوم يرسلون إليه طالبين الماء ومن باب مجاملته لهم كان يرسل إليهم احدنا فالنظام داخل البازان كان نظاما صارما فأي سقا كان يحاول فقط أن يخالف نظام البازان كان شيخ البازان لا يتردد بتاتا في معاقبته وذلك بمنعه من مزاولة العمل لثلاثة أيام متواصلة فقد كانت للبازانات أنظمة لكن النظام السائد في جميع البازانات والخاص بالسقايين انه مسموح لكل سقا ولمرة واحدة تعبئة برميله من أي بازان.
ويعود بذاكرته إلى الطريقة التي تم فيها إغلاق البازان إذ يقول: أثناء تنفيذ مشروع تحسين حي السبيل وتحديدا أثناء هدم بعض بيوته لإنشاء كوبري الملك فهد عانى حي السبيل في ذلك الوقت من أزمة مياه، خاصة ان البازانات بدأت تتلاشى الأمر الذي جعل المسؤولين يجلبون لنا الماء من عسفان بالوايتات التي كانت تتمركز أمام مركز العقيلي حاليا وكانت الناس وعربات الحمير وزفات الماء تقف أمامها بعد أن جف الماء في البازان.. وتصادف في احد الأيام أن الملك فيصل يرحمه الله كان مارا من ذلك الطريق وشاهد ازدحام الناس وعلى الفور أصدر أمره الكريم بإيصال الماء إلى كل بيت ومعها الهاتف وما هي إلا فترة زمنية حتى تدفقت المياه في كل بيت ومعها رنين الهاتف وأصبح البازان تاريخا ايحكي قصة جدة.
التعب الجميل
علي خليل احد سكان الحي وبنبرة حزن وحسرة على الماضي وعلى أزمة المياه الحالية قال: رغم المشقة التي كنا نعانيها أثناء احتياجنا للمياه من البازان لكنها كانت مشقة جميلة قد يعود جمالها إلى صغر سننا وقد يعود إلى إغراءات آبائنا في أن يشتروا لنا الحلوى أو يأخذونا معهم في مشاويرهم إذا ما أحضرنا السقا إلى البيت وقد يعود إلى رغبتنا في ركوب عربة السقا التي من أجلها كنا نجلس بالساعات في البازان من اجل برميل أو زفة ماء نروي بها عطشنا وعطش بيوتنا، وكنا سعيدين بذلك.. ورغم شح المياه لم نكن نشتكي مثل هذه الأيام التي لا يخلو بيت في جدة إلا واشتكى من أزمة الماء التي اعتقد أن المسؤولين حاليا يحاولون معالجتها لكن أهم شيء عندي الآن أن يعالجوا بازانات جدة التي تعتبر تاريخ مرحلة هامة في جدة فمثلا بازان السبيل أتمنى من الجهات المختصة الاهتمام به من خلال المحافظة على ما بقي منه والإشارة إليه في بعض المناسبات لتذكير الأجيال كيف كنا وكيف أصبحنا.
والبازان للذي لا يعرفه هو مكان للسقاية وهو عبارة عن شبكة مياه بها مواسير تسمى «أشياب» يتدفق منها الماء لتعبئة برميل حديدي مشبوك بعجلتين وحمار.
وفي البازان أيضا بعض «البزابيز» المخصصة لتعبئة «الزفة» والمقصود هنا ليست زفة العروس إنما هي صفيحتان من التنك (تنك السمن) يوضع فيهما الماء وتتصلان هاتان الصفيحتان بعضهما البعض بواسطة قصبة من الخشب تسمى عود «الزفة» أو «البومبة» وهي عصا غليظة في طرفيها سلسلتان من حديد لتعليق الصفيحتين فوق كتفي السقا.
وللبازان مسؤول يسمى شيخ البازان له الكلمة العليا ولا يستطيع من كان أن يثني له كلمة أو يكسرها.
أصل البازانات
وأصل كلمة بازان يقال انها كلمة تركية وهي مرتبطة باسم مهندس تركي قام بتصميم شبكة المياه لسقاية الناس والبعض ألمح إلى خلاف ذلك وأعادها إلى عام 1326هـ عندما أرسل فيه احد أمراء المغول في العراق أحد العاملين عنده واسمه بازان لإعادة إصلاح خط المياه المدمر.
ومع ذلك فهذه البازانات كانت وما زالت أشهر من نار على علم في جدة والتي أُلغيت قبل قرابة 30 عاما بسبب توسع المدينة وتوفر شبكة المياه التي دخلت البيوت بدلا من السقا الذي كان يجلب الماء من بازانات الكندرة وحارة اليمن والبغدادية وحارة المظلوم والقشلة وكيلو 3 بطريق مكة والنزلة الشرقية ومدائن الفهد وغليل والهنداوية والسبيل وهذه البازانات صغرت أم كبرت لم تظهر في وقت واحد وإنما ظهرت حسب الحاجة وحسب الامكانات وان كان أشهرها بازان العيدروس وبازان السبيل والأخير رغم أن معالمه مازالت قائمة حتى الآن لكن لم يبق من تاريخه سوى العم احمد قدح الذي ما أن أغلق البازان حتى امتهن تحبيل الاسرة (جمع سرير) لينام الناس عليها بعد أن أراحهم سنين وهو يجلب الماء لهم مرة بحماره وأخرى بزفته التي كان يحملها فوق كتفه.
صفوة المجتمع
فبازان السبيل القريب من قصر الملك سعود «قصر خزام» الذي يقع في شارع بشار بن برد الذي كان يوما من اشهر شوارع هذا الحي بسبب قاطنيه الذين كانوا من صفوة المجتمع مثل قصر الأميرة الجوهرة وقصر الأمير عبدالله بن سعد وبيت عبدالله بحلس وبيت المعمر وبيت الشيهون وبيت الحمودي وبيت عبدالرحمن بن سعيد والسفارة النيجيرية فهذا البازان كان يوما روضة من رياض الدنيا ليس بأشجاره إنما بهوائه البارد وتحول اليوم إلى ساحة بيضاء ما أن تهب نسمة ريح فيه حتى تتطاير أتربته وغباره إلى عيون المارة هذا الشعور أحسست به وأنا أقف فيه واسترجع الماضي الذي كنت فيه كبقية أقراني في تلك الفترة صغير السن.. كنا نجلس أمام جدار يظللنا من أشعة الشمس فيما كنا نستمتع برؤيتنا للحمير وللسقايين ولتدفق الماء في الزفات أو البراميل وان كانت متعتنا الحقيقية هي أن نركب فوق الحمير لنقود السقا إلى بيوتنا رغم انه كان احد سكان حينا.
وعلى الرغم من أن شيخ البازان (الشيخ زقر) يرحمه الله كان أحد سكان الحي ويعرف كل من فيه كان لا يسمح بتاتا بخروج برميل ماء أو زفة ماء ما لم نأته ونجلس في الطابور كنظام متبع لديه لا يمكن إغفال ومهما كان الأمر فقد كان الشيخ زقر لا يفرق بين كبير أو صغير.
بازان السبيل
وكان بازان السبيل -وحسب كلام العم احمد قدح- هو عبارة عن أرض فسيحة البيوت من حوله وهو يتوسطها وكان كل السقايين فيه وفي كل البازانات هم من الجنسية اليمنية يعملون فيه من بعد صلاة الفجر حتى ما قبل العشاء وهو موعد إغلاق المياه بواسطة مأمور العين العزيزية وهو شخص موكل بفتح وإغلاق محبس الماء الذي يفتحه مع الأذان الأول لصلاة الفجر ويغلقه مع أذان العشاء وكان كل سقا منا يدخل البازان وهو يقول «سرا» وهي كلمة لتنبيه الآخرين بوجوده ولتأمين دوره بينهم.
ويبدو أن العم احمد أراد تذكيري بهذه الكلمة «سرا» التي جعلتني يوما اذرف الدمع رغم صغر سني ولم يسكت بكائي سوى حلوى العم زقر ففي ذلك اليوم دخلت البازان وأنا أقول سرا وقد حسبني بعض السقايين انني بديلا لأحدهم أو لحين وصوله فقد كان مثل هذا الأمر عاديا ومعروفا عند الجميع طالما ان العربة والحمار معروفان عند شيخ البازان وحتى عند السقايين وعندما حان دوري بقيت في مكاني جالسا عندها اقترب مني احدهم وعرف أنني كنت امزح وألهو فلطمني كفا لم أنسه حتى اليوم.
فكلمة سرا والكلام هنا للعم احمد قدح هي مفتاح دخولهم للبازان ومفتاح وصولهم ووقوفهم تحت أشياب «البزابيز» ويعود بذاكرته لأيام زمان ويقول كنا في ذلك الوقت لا نزيد عن العشرين سقا وكان كل منا يقف بحماره في اليوم الواحد تحت تلك الأشياب مابين 8 – 10 مرات (ردود) كنا نبيع الرد الواحد بريال ونصف ولا يزيد عن الريالين أما الزفة فقد كنا نبيعها بـ 4قروش رغم تعبها الشديد التي تحتاج إلى قوة جسمانية لحملها وهذا هو سبب قلة العاملين فيها - يصمت قليلا مسترجعا الماضي وهو يبتسم ويقول - كانت الناس في تلك الأيام طيبة جدا يميزها صدق المعاملة فالظروف المادية في ذلك الوقت لم تكن متوفرة لكل شخص بسهولة ولذلك كنا نورد الماء للبيوت بالدفع الآجل فأكثر بيعنا للماء بالدين الذي يتم تقييده من خلال «شخط» خط يكتب على الجدران من الداخل في كل بيت بقطعة من فحم بعدد براميل وزفات الماء التي أوردناها دون أن يخطر على بالنا أن صاحب الدار بإمكانه أن يمسحها أو يتلاعب بها فالثقة المتبادلة كانت عنوان تعامل بعضنا البعض.
وكان إذا مرض احد السقايين أو تعب استعان بزميل له في إيصال الماء إلى زبائنه فقد كان ممنوعا أن يتعدى احدنا على زبائن الآخر وهو عرف متبع في جميع البازانات إضافة إلى أن الشيخ زقر الذي كان يتقاضى راتبه من العين العزيزية والذي كانت له هيبة كبيرة وقوية عند الصغير وعند الكبير كان لا يسمح بذلك رغم انه كان ينظم العمل داخل البازان وهو جالس فوق كرسيه المحبل (القعادة) بداخل غرفته والتي كان بابها وشباكها يطلان على ساحة البازان ، فالباب كان يطل على موقع تعبئة زفات الماء فيما كان الشباك يطل على أشياب المياه وكان زقر يجلس معتما بعمامته وفي يده عصا غليظة لا تفارقه وكان صوته يعلو بين الحين والآخر على فلان أو علان بان يستعجل في تعبئة برميله أو يخرج بحماره من البازان فيما كان السيد حمود يرحمه الله يجلس بالقرب من تلك الغرفة ليبيع لنا الشاي والقهوة وفي يوم الجمعة يتحول إلى جزار لبيع اللحمة كنا نشتري منه كل حسب احتياجه فمنا من يشتري ربع كيلو ومنا من يشتري ثمن كيلو وبعضنا من يسر الله عليه كان يشتري نصف كيلو أو كيلو والدفع حاله حال السقايين بالدين.
وكان بالقرب من السيد حمود يجلس عثمان قبيع الذي اشتهر ببيع وتصليح عربات الحمير وهي عبارة عن لوحين خشبيين مشبكين بهما إطاران (كفران) يوضع عليهما برميل الماء وكان القبيع يبيع (العربية) الواحدة بما لا يزيد على ريال فيما كان سعيد الحضرمي الذي امتهن صناعة وتصليح براميل الماء يجلس في مكان آخر من البازان ليبيع البرميل الواحد بما لا يزيد ولا يقل كثيرا عن 100 ريال، وكنا نشتري الحمير من حراج البهائم في العيدروس بين 300 – 500 ريال للحمار الواحد.
نظام صارم
وكان في البازان سقيفة فيها بعض الأسرة المكسرة كنا نجلس فوقها أو ننام عليها لحين مجيء دورنا وفي كثير من الأحيان كنا نأتي بفطورنا من بيوتنا أو يأتي به إلينا أحد أبنائنا ورغم قلته كنا نجتمع حوله وكل واحد منا يأكل لقمة منه ويقوم حامدا وشاكرا الله على نعمته وإذا حل بنا العيد ارتدينا ملابسنا وصلينا وعايدنا بعضنا البعض ثم توجهنا إلى البازان لنعمل ولنعيد على شيخنا زقر الذي كان يحتفي بنا والذي كان يجامل بعضنا أحيانا بالسماح له بدخول البازان بعيدا عن أي سرا لأننا كنا نبادله المجاملة ففي بعض الأحيان كان بعض من عليّة القوم يرسلون إليه طالبين الماء ومن باب مجاملته لهم كان يرسل إليهم احدنا فالنظام داخل البازان كان نظاما صارما فأي سقا كان يحاول فقط أن يخالف نظام البازان كان شيخ البازان لا يتردد بتاتا في معاقبته وذلك بمنعه من مزاولة العمل لثلاثة أيام متواصلة فقد كانت للبازانات أنظمة لكن النظام السائد في جميع البازانات والخاص بالسقايين انه مسموح لكل سقا ولمرة واحدة تعبئة برميله من أي بازان.
ويعود بذاكرته إلى الطريقة التي تم فيها إغلاق البازان إذ يقول: أثناء تنفيذ مشروع تحسين حي السبيل وتحديدا أثناء هدم بعض بيوته لإنشاء كوبري الملك فهد عانى حي السبيل في ذلك الوقت من أزمة مياه، خاصة ان البازانات بدأت تتلاشى الأمر الذي جعل المسؤولين يجلبون لنا الماء من عسفان بالوايتات التي كانت تتمركز أمام مركز العقيلي حاليا وكانت الناس وعربات الحمير وزفات الماء تقف أمامها بعد أن جف الماء في البازان.. وتصادف في احد الأيام أن الملك فيصل يرحمه الله كان مارا من ذلك الطريق وشاهد ازدحام الناس وعلى الفور أصدر أمره الكريم بإيصال الماء إلى كل بيت ومعها الهاتف وما هي إلا فترة زمنية حتى تدفقت المياه في كل بيت ومعها رنين الهاتف وأصبح البازان تاريخا ايحكي قصة جدة.
التعب الجميل
علي خليل احد سكان الحي وبنبرة حزن وحسرة على الماضي وعلى أزمة المياه الحالية قال: رغم المشقة التي كنا نعانيها أثناء احتياجنا للمياه من البازان لكنها كانت مشقة جميلة قد يعود جمالها إلى صغر سننا وقد يعود إلى إغراءات آبائنا في أن يشتروا لنا الحلوى أو يأخذونا معهم في مشاويرهم إذا ما أحضرنا السقا إلى البيت وقد يعود إلى رغبتنا في ركوب عربة السقا التي من أجلها كنا نجلس بالساعات في البازان من اجل برميل أو زفة ماء نروي بها عطشنا وعطش بيوتنا، وكنا سعيدين بذلك.. ورغم شح المياه لم نكن نشتكي مثل هذه الأيام التي لا يخلو بيت في جدة إلا واشتكى من أزمة الماء التي اعتقد أن المسؤولين حاليا يحاولون معالجتها لكن أهم شيء عندي الآن أن يعالجوا بازانات جدة التي تعتبر تاريخ مرحلة هامة في جدة فمثلا بازان السبيل أتمنى من الجهات المختصة الاهتمام به من خلال المحافظة على ما بقي منه والإشارة إليه في بعض المناسبات لتذكير الأجيال كيف كنا وكيف أصبحنا.