-A +A
عبد المؤمن القين
تستوقفنا كلمة «كسب» مصدرا للفعل «كسب، يكسب، كسبا» الثلاثي المجرد في سورة البقرة بآيتين متشابهتين هما قوله تعالى (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) 141،134.
ففي الآية الثانية جواب الأولى لما قبلها (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانواْ هودا أو نصارى... الآية) 140. ونلاحظ أن الفعل الماضي يعبر عن الاكتساب الإيجابي، أما الفعل الخماسي المزيد (اكتسب) فيعبر عن معنى سلبي في الآيتين الكريمتين.

وتأتي الصيغة الماضية المزيدة بحرفين للاكتساب في سورة النساء بقوله تعالى (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن.. الآية ). إلا أن صيغة المضارع ذات جانب سلبي في قوله تعالى (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما). هذا بالنسبة للفرد نفسه، فماذا عن البريء المتهم؟، إن صيغة المضارع لهذا الفعل تعطي حرية للمجرم المتآمر أن يستمرئ الافتئات بل البهتان فهو الذي يرتكب (يكسب) الإثم لكنه يرمي به البريء، لحفظ ماء وجهه وللإبقاء على سمعته، فهو من علية القوم.. وهذا ما حدث بين يوسف عليه السلام البريء وبين امرأة العزيز المفتئتة، حيث يقول عز وجل (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا). أيضا صيغة المضارع تعني الإيجاب والسلب معا كما في قوله عز وجل (يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون)، والسلب فقط في قوله تعالى (وويل لهم مما يكسبون). ومعنى (احتمل) أي: تحمل. أما الفعل (بهت) فمعناه «أدهشه وحيره أو أخذه بغتة.. وبهته بهتانا: افترى عليه الكذب وحيره به، والبهتان: الكذب الشنيع الذي يحير سامعيه». (معجم الألفاظ والأعلام القرآنية).
وأمام هذا البهتان ماذا كان موقف يوسف عليه السلام بعد أن زجت به امرأة العزيز في السجن، قال تعالى (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين * فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم). إنه مسرى النور الذي كان يسير فيه الأنبياء غير آبهين بأنواع الابتلاء وصنوفه.. لقد تهيأ ليوسف بالسجن، حيث بلغ أشده، مناخ نشر دعوة التوحيد بين السجناء مكسوري النفس، فكأنما شر امرأة العزيز كان خيرا له. وغني عن القول إن سورة يوسف تحققت لها عناصر القصة من مقدمة وحبكة ونتيجة، ومن أهم معطياتها المنهج الاقتصادي الذي يجب احتذاؤه ومن قصة يوسف يأخذ الاكتساب بعدا أكبر من الافتراء عند تعرض المجتمعات البشرية للقحط والفقر. وأصبح يوسف بعد خروجه من السجن أمينا على خزانة مصر.. إلخ القصة الجديرة بالتأمل.
من الإنسان على أخيه الإنسان، بل هو الافتراء على الله الكذب والتكذيب بآياته، فمن قوله تعالى (والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها..) إلى قوله (ولكن لا تعلمون) الأعراف/ 36-38، تفصل الآيات من هم أصحاب النار وتتساءل بقوله سبحانه (فمن أظلم ممن افترى على الله الكذب أو كذب بآياته.. الآية)، ويأتي الجواب بقوله (قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا...الآية)، ولنتأمل فعل (اداركوا) إنه يرسم الحركة لتلاحقهم الأمة تلو الأخرى!!، ثم تأتي الآية التوكيدية التفسيرية بقوله تعالى (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين). إن الاكتساب هذا
ذو بعد إعلامي يحتاج إلى فهم وتدبر خاصة للآية التالية (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين). إنها السخرية في أسلوب القرآن وإلا كيف تكون جهنم مهادا ؟، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
والاستثناء العظيم في الاكتساب ورد في قوله تعالى (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين).. وهذا أسلوب آخر من أساليب القرآن الكريم، فالاكتساب هنا سلبي يتعلق بالنفس ودواخلها لاسيما فجورها ــ على الظاهر ــ ، ولكن القرآن ينزه أصحاب اليمين. ونسأل الله أن يجعلنا منهم إنه سميع مجيب.