-A +A
حمد عائل فقيهي
(1)
«هكذا تحول العالم العربي في لحظة».. فاصلة وحاسمة وعبثية.. وبامتياز.. وكأننا إزاء حالة من «تفسخ» سياسي وثقافي وأخلاقي عامة وشاملة وكأنما نحن أيضاً أمام حالة من «تصدع» في الذاكرة العربية.. وفي هذه الجغرافية العربية المعرضة لتفكيك أوصالها وخطوط طولها وعرضها كما هو الحال في العراق، النموذج والمثال-وكأن الهوية العربية المتمثلة في أعلى درجاتها في الدين والتاريخ تبدو في مرحلة خطيرة ويبدو العرب في المحصلة النهائية في حقبة التيه العربي وهي حقبة لا يتضح من خلالها وجود ضوء صغير في هذا الليل العربي الطويل.. ولا يكاد يبين أي شيء يوحي بوجود حل جذري ومفصلي للمشكلة العربية المتمثلة في التقريب بين «فرق» و«نِحَل» الأمة، وإحداث تقارب بين مذاهبها وتياراتها الدينية والسياسية وخلق حوار حقيقي.

(2)
هكذا هي حال العرب -اليوم- ففي الوقت الذي تتعرض فيه الأمة لهجمة استعمارية مخططة ومبرمجة سلفاً، ووفق استراتيجية استعمارية مهمتها الأساسية طمس هذه الهوية العربية الإسلامية المعادية والمخاصمة والمقلقة للغرب الاستعماري، وجعلها -أي هذه الهوية- مسألة صغيرة.. وفي الهامش من الاهتمام العام وثانوية في التفكير العربي، والممارسة العربية والاشتغال على خلق بؤر للتوتر والاحتقان السياسي والاجتماعي والطائفي داخل كل دولة عربية، ومن هنا نرى تراجع كل المشاريع التي كانت تروِّج لها الولايات المتحدة الأمريكية بعد عاصفة أحداث 11 سبتمبر بدءاً من مشروع الإصلاح وانتهاء بمشروع الديموقراطية ومن هنا يتضح أن العالم العربي، هو مجرد حقل تجارب للسياسة الأمريكية وبقدر ما تعبّر وضعية العرب بعامة عن مأساة في الذهنية العربية، تعبِّر بالمقابل في الذهنية الغربية، عن «ملهاة» كبرى حقاً.
إنها دوائر استعمارية متداخلة ومعقدة، تلك الدوائر الاستعمارية الغربية على المستويات العسكرية والاقتصادية.
(3)
إن المأزق الحضاري الذي تعيشه الأمة في كل من فلسطين والعراق ولبنان والسودان وأقطار عربية أخرى هو مأزق سياسي وفكري وثقافي وهو تعبير عن غياب المشروع الحضاري لأمة تبحث اليوم عن ذاتها فتجدها ضائعة وتائهة وتبحث عن فكرة الدولة في مضمونها الحديث والعميق فلا تعثر إلا على الفكر المؤسساتي فيما نجد أنفسنا أمام هجرة للعقول العربية إلى الغرب.. وإلى المنافي والمهاجر.. فيما نجد أيضاً أصحاب الفكر الحر والرؤية المتوازنة والعاقلة بعيدين عن هذه الضوضاء الإعلامية وهذا الضجيج الذي هو نتاج لخطاب الزيف لا خطاب الصدق، إنها أزمة حضارية حقيقية وأزمة نخبة مثقفة هاربة من أدوارها.
لذا فإن أزمة العرب الحقيقية ليست أزمة عقول ولا هي أزمة تفكير فقط.. ولكنها منظومة من الأزمات تراكمت بفعل ثقافة الهزيمة والشعور بالدونية إزاء الأمم الأخرى المتقدمة. ومن هنا لابد من صياغة مشروع حضاري من أجل خلق واقع عربي.. لا ترتفع قيمة «الوطن» إلا بالارتفاع من قيمة المواطن، وجعل المجتمعات تتصالح مع نفسها، من أجل الخروج أيضاً من دوائر الانتماءات الضيقة السياسية والطائفية والمذهبية والمناطقية.
إن من يتأمل الوضع العربي سوف يصل إلى نتيجة واحدة تتلخص في هذا المشهد الطاغي الذي لا نرى فيه وعبره ومن خلاله إلا مزيداً من الخلاف لا الاختلاف بين مختلف الأطراف والمزيد من الاحتراب وهو مشهد يشتعل بفعل تأجيج الفتن الداخلية، وسوف يزداد هذا الاختلاف والاحتراب ما لم ترتفع أصوات العقلاء وما لم تكن هناك محاصرة للدوائر المغلقة والمفتوحة على كل الاحتمالات وعلى هذا الجحيم القادم لأمة لا تعرف أين هي اليوم وأين تقف وإلى أين تتجه في ظل تتابع وتدفق الأحداث في اندفاعاتها وتداعياتها المختلفة والمجلجلة.
فهل من مخلِّص حتى لا يصبح «العرب» خارج التاريخ حقاً.. وخارج «العصر» حيث تضيء قيم المعرفة دور الإنسان.. وتُعلي من دور العقل وأهميته في بناء الأمم والشعوب.
a_faqehi@hotmail.com