للتنمية وجهان، وجه إنساني ووجه مادي. وهما شديدا الالتصاق، بل إن الثاني بعض من الأول. التمنية البشرية تبدأ من التعليم ونشر الوعي والتمكين من الوظائف، والتنمية المادية هو تسخير الموارد لبناء المدن والقرى وتوفير الخدمات بشكل متوازن.
منذ الستينات الميلادية بدأت مسيرة التنمية في توسيع رقعة التعليم وإنشاء الجامعات وإقرار تعليم المرأة، لكن التدشين الرسمي لخطط التنمية بدأ منذ أوائل السبعينات. ومن يقرأ أدبيات خطط التمنية يجدها من الناحية النظرية مستوعبة للكثير من المتطلبات، وخاصة في الموازنة بين التنمية البشرية والتنمية المادية، بين ما تحتاجه المدن وما تحتاجه القرى. غير أن الإشكالية تكمن في التطبيق الذي ارتبك أمام هول المتغيرات الاقتصادية، والسياسية، فتأثرت الموازنات، وتغير مجرى الأولويات، وافتقر التطبيق إلى التأني في فهم طبيعة العلاقة بين القرية والمدينة.
العلاقة عالمياً بين القرى والمدن علاقة واضحة، كل له دوره الذي يؤديه. فالتصنيع والعمران للمدن، أما القرى فلها الزراعة والرعي. ولنجاح هذه العلاقة يشترط توفر كافة الخدمات في الجهتين دون تمييز. فماذا عن مدننا وقرانا؟!
المشكلة التنموية التي وقعنا فيها أن الاهتمام بالمدن كان أكبر بكثير من الاهتمام بالقرى، فالتنمية في أبسط معانيها لم تمارس دورها في معظم القرى. والنتيجة الكارثية تكمن في هجرة أبناء القرى للمدن، في الوقت الذي أهملوا فيه دورهم التقليدي وهو الزراعة ورعاية الأرض. هجرة أبناء القرى بالآلاف بحثاً عن الوظائف، بحثاً عن الخدمات الصحية والتعليمية، بحثاً عن الكهرباء ووسائل الاتصال، بحثاً عن فرص كريمة للعيش لم تكن متوفرة في القرى.
ونتيجة لتوفر الخدمات في المدن الكبيرة يضطر الإنسان للهجرة بحثاً عنها. وهنا اكتضت المدن بقادمين ليس لمعظمهم من هدف سوى البحث عن الخدمات. ونتج عن ذلك أن تكونت في المدن فئات اجتماعية تكتلت في تكوينات ريفية أو قروية خاصة بها، إما لعدم القدرة على الانتماء لثقافة المدينة، أو لأسباب اقتصادية، وللبحث عن الحماية من غرباء المدن. ونتيجة لأخطاء التنمية نتج عن ذلك قيام أحياء غير متجانسة تفتقد روح الحياة المدنية، وازدحمت الطرقات وأصبحت كلفة بناء البنية التحتية باهظة، وارتفعت أسعار العقار. في المقابل القرى تنتظر مخلصها من افتقارها من أهلها الذين هجروها، من يعيد أراضيها الزراعية لسالف عهدها التي يعج فيها الآن الغبار بعد أن هجرها أبناؤها.
من شروط التنمية المتوازنة توفير الخدمات من مدرس وجامعات ومعاهد، ومستشفيات ومدن طبية، وطرق معبدة وكهرباء في القرى والحواضر المحيطة بها بالتوازي مع المدن لاستقطاب أهلها، وتنمية أراضيهم لتستمر سلة غذاء للمدن. قد يقول قائل إن هذا صعب، لكن في الحقيقة نحن الآن نصحح الوضع بعد تفاقم المشكلة. ففي السنوات الأخيرة، انشرت الكهرباء ووسائل الاتصال وعبدت الكثير من الطرق، وإنشئت الجامعات في الحواضر المحيطة بالقرى مثل أبها وحائل ونجران وجازان وتبوك وغيرها، وأمرت الدولة ببناء مدن طبية في معظم المناطق، مثل هذه الخطوة من شأنها خلق وظائف، واستبقاء الإنسان في محيطه الجغرافي، وزيادة تبادل المنافع بين القرى والمدن. السؤال الآن، لماذا تأخرت هذه الخطوة؟! لماذا هذه كان يجب أن تسأل قبل سنوات عندما كانت أفواج أبناء القرى تغزو المدن للدراسة أو العلاج أو البحث عن الوظائف. لقد أرهقتهم المدن بثقافتها ومتطلباتها، وخسرتهم القرى. المشكلة في هذه الخطوة أنها لن تصحح ما فسد بالكامل، لكن من شأنها أن تخفف وطأة المشكلات وتريح أبناء القرى من الهرولة عند كل حاجة صغير أو كبيرة لأقرب مدينة، فالمدن صارت تضج بأوجاعها المرورية وعشوائياتها، والقرى تعاني من تغير طبيعة الحياة فيها بالكامل، فبدلا من كونها سلة غذاء أصبحت مستهلكة لمستوردات المدينة، وموطناً لغرباء ومجهولي الهوية!!
halnemi@gmail.com
منذ الستينات الميلادية بدأت مسيرة التنمية في توسيع رقعة التعليم وإنشاء الجامعات وإقرار تعليم المرأة، لكن التدشين الرسمي لخطط التنمية بدأ منذ أوائل السبعينات. ومن يقرأ أدبيات خطط التمنية يجدها من الناحية النظرية مستوعبة للكثير من المتطلبات، وخاصة في الموازنة بين التنمية البشرية والتنمية المادية، بين ما تحتاجه المدن وما تحتاجه القرى. غير أن الإشكالية تكمن في التطبيق الذي ارتبك أمام هول المتغيرات الاقتصادية، والسياسية، فتأثرت الموازنات، وتغير مجرى الأولويات، وافتقر التطبيق إلى التأني في فهم طبيعة العلاقة بين القرية والمدينة.
العلاقة عالمياً بين القرى والمدن علاقة واضحة، كل له دوره الذي يؤديه. فالتصنيع والعمران للمدن، أما القرى فلها الزراعة والرعي. ولنجاح هذه العلاقة يشترط توفر كافة الخدمات في الجهتين دون تمييز. فماذا عن مدننا وقرانا؟!
المشكلة التنموية التي وقعنا فيها أن الاهتمام بالمدن كان أكبر بكثير من الاهتمام بالقرى، فالتنمية في أبسط معانيها لم تمارس دورها في معظم القرى. والنتيجة الكارثية تكمن في هجرة أبناء القرى للمدن، في الوقت الذي أهملوا فيه دورهم التقليدي وهو الزراعة ورعاية الأرض. هجرة أبناء القرى بالآلاف بحثاً عن الوظائف، بحثاً عن الخدمات الصحية والتعليمية، بحثاً عن الكهرباء ووسائل الاتصال، بحثاً عن فرص كريمة للعيش لم تكن متوفرة في القرى.
ونتيجة لتوفر الخدمات في المدن الكبيرة يضطر الإنسان للهجرة بحثاً عنها. وهنا اكتضت المدن بقادمين ليس لمعظمهم من هدف سوى البحث عن الخدمات. ونتج عن ذلك أن تكونت في المدن فئات اجتماعية تكتلت في تكوينات ريفية أو قروية خاصة بها، إما لعدم القدرة على الانتماء لثقافة المدينة، أو لأسباب اقتصادية، وللبحث عن الحماية من غرباء المدن. ونتيجة لأخطاء التنمية نتج عن ذلك قيام أحياء غير متجانسة تفتقد روح الحياة المدنية، وازدحمت الطرقات وأصبحت كلفة بناء البنية التحتية باهظة، وارتفعت أسعار العقار. في المقابل القرى تنتظر مخلصها من افتقارها من أهلها الذين هجروها، من يعيد أراضيها الزراعية لسالف عهدها التي يعج فيها الآن الغبار بعد أن هجرها أبناؤها.
من شروط التنمية المتوازنة توفير الخدمات من مدرس وجامعات ومعاهد، ومستشفيات ومدن طبية، وطرق معبدة وكهرباء في القرى والحواضر المحيطة بها بالتوازي مع المدن لاستقطاب أهلها، وتنمية أراضيهم لتستمر سلة غذاء للمدن. قد يقول قائل إن هذا صعب، لكن في الحقيقة نحن الآن نصحح الوضع بعد تفاقم المشكلة. ففي السنوات الأخيرة، انشرت الكهرباء ووسائل الاتصال وعبدت الكثير من الطرق، وإنشئت الجامعات في الحواضر المحيطة بالقرى مثل أبها وحائل ونجران وجازان وتبوك وغيرها، وأمرت الدولة ببناء مدن طبية في معظم المناطق، مثل هذه الخطوة من شأنها خلق وظائف، واستبقاء الإنسان في محيطه الجغرافي، وزيادة تبادل المنافع بين القرى والمدن. السؤال الآن، لماذا تأخرت هذه الخطوة؟! لماذا هذه كان يجب أن تسأل قبل سنوات عندما كانت أفواج أبناء القرى تغزو المدن للدراسة أو العلاج أو البحث عن الوظائف. لقد أرهقتهم المدن بثقافتها ومتطلباتها، وخسرتهم القرى. المشكلة في هذه الخطوة أنها لن تصحح ما فسد بالكامل، لكن من شأنها أن تخفف وطأة المشكلات وتريح أبناء القرى من الهرولة عند كل حاجة صغير أو كبيرة لأقرب مدينة، فالمدن صارت تضج بأوجاعها المرورية وعشوائياتها، والقرى تعاني من تغير طبيعة الحياة فيها بالكامل، فبدلا من كونها سلة غذاء أصبحت مستهلكة لمستوردات المدينة، وموطناً لغرباء ومجهولي الهوية!!
halnemi@gmail.com