-A +A
محمد بن عبدالرزاق القشعمي
عند جورجي لويس بورخيس تتجلى معادلة العمى بصيرة، هذه هي مسيرته مع الكتابة والحياة، وهذه هي حكايته مع الإبداع، التي يستمر في رواياتها حسب ترجمة عبدالسلام باشا بقوله: عندما استعيد أجواء قصائد (دفء بيونس أيرس) أول كتبي المطبوعة، أتذكر كيف كتبت هذه القصائد في 1921 و1922، وظهر الكتاب في بدايات 1923. طبع الكتاب في خمسة أيام، وكان علي أن أقوم بهذا على عجل، لأننا كنا يجب أن نعود إلى أوروبا، حيث كان أبي يريد استشارة طبيبه في جينيف. كنت قد تعاقدت على طبعة من 64 صفحة، لكن المخطوط جاء أطول، وكان علي في آخر لحظة ــ لحسن الحظ ــ أن أحذف منه خمس قصائد، لا أتذكر منها أي شيء على الإطلاق. ظهر الكتاب بروح شبابية للغاية. لم تكن هناك تصحيحات، لم يكن به فهرس والصفحات لم تكن مرقمة. أختي وضعت تصميما للغلاف وطبعت ثلاثمائة نسخة. في تلك الأوقات كان طبع كتاب يعد نوعا من المغامرة. لم أفكر أبدا في إرسال نسخ إلى أصحاب المكتبات أو النقاد. أهديت معظمها. أتذكر إحدى طرقي في التوزيع. لاحظت أن الكثيرين ممن يذهبون إلى مكتب (لوستروس) ــ إحدى أقدم المجلات الأدبية وأهمها في تلك الفترة ــ كانوا يعلقون معاطفهم في المشاجب. حملت خمسين نسخة إلى (ألفريدو بيانشي) أحد المديرين. نظر (بيانشى) مذهولا، وقال: «اتنتظر أن تبيع كل هذه الكتب؟» أجبته: «لا، على الرغم من أنني كتبت هذا الكتاب إلا أنني لست مجنونا. فكرت أنني يمكن أن أطلب من حضرتك أن تضعه في جيوب تلك المعاطف المعلقة هناك». وبكرم شديد فعل (بيانشي) هذا. عندما عدت بعد أكثر من عام اكتشفت أن بعض أصحاب المعاطف قرأوا قصائدي وكتبوا عنها أيضا. وبهذه الطريقة حزت على شهرة بسيطة كشاعر.
هل كانت قصائد (دفء بوينوس أيرس) طليعية؟ عندما عدت من أوربا عام 1921 وصلت حاملا راية الطليعية. مؤرخو الأدب ما زالوا يعرفونني بأبى الطليعية الأرجنتينية.

في حياة مكرسة للأدب قرأت روايات قليلة للغاية، في أغلب الحالات وصلت إلى الصفحة الأخيرة بدافع الواجب فقط. في نفس الوقت كنت قارئا كبيرا للقصص. ستيفنسون وكيبلنج وكونراد وتشيسترتون وقصص ألف ليلة وليلة في ترجمة لين، وقصص معينة عند هاوثورن شكلت جزءا من قراءتي العادية منذ امتلكت ذاكرة. الشعور بأن روايات كبيرة مثل (دون كيخوته) وHuckleberry Finn تفتقد بالفعل للشكل ساعد على ازدياد إعجابي بالقصة، التي لا غناء عن عناصرها؛ الاقتصاد والبناء المحكم من البداية والتطور والنهاية. ومع هذا اعتقدت ــ ككاتب ــ لسنوات أن القصة أقرب لإمكاناتي، وفقط بعد سلسلة طويلة من التجارب السردية الخجلة جلست لكتابة قصة حقيقية.
تأخرت ست سنوات من 1927 حتى 1933 في المرور من تجربتي المتأثرة بـ(رجال يتشاجرون) إلى أولى قصص في (رجل الناصية الوردية) صديق لي، دون نيكولاس باريدس، قائد قديم ولاعب محترف في حي الشمال المندثر القديم. أردت أن أخلد شيئا من صوته، من نوادره وطريقته الخاصة في حكيها.
اجتهدت في كل صفحة، مرتلا العبارات بصوت عالٍ حتى أجد النغمة المناسبة. كنا نعيش في (أدروجي)، ولأنني أعرف أن أمي سترفض الأمر بشكل قاطع كتبت سرا خلال عدة شهور. ظهرت القصة باسمها الأصلي (رجل الضفاف) في ملحق السبت لجريدة كريتيكا التي كنت أتعاون معها. لكن بسبب الخجل وربما لاعتقادي أن القصة غير جديرة بي وقعتها باسم مستعار، اسم جدي الثالث (فرانسيسكو بوستوس). على الرغم من نجاحها المخجل تقريبا (اليوم مسرحيا ومؤثرا والشخوص تبدو لي مزيفة) لم أعتبرها أبدا نقطة انطلاقي إنما نوع من غرابة الأطوار.