-A +A
حسن النعمي
تغيرت بنية الإعلام، وخاصة الإعلام التلفزيوني ولم تتغير مضامينه. والمقصود ببنية الإعلام انتقال الإعلام من العام إلى الخاص، من الإشراف المباشر من قبل الدول إلى ملكيات تجارية تقدم برامجها وفقا لقوانين التجارة، لكن دون أن تتخطى خطوط التوجيهات الحكومية. وهي بنية هشة في تكوينها، بنية تعتمد المادة المثيرة أكثر من المادة المفيدة. وإذا كانت القنوات الحكومية موجهة صراحة، فإن القنوات التلفزيونية الخاصة موجهة كذلك، لكن عبر فلسفة التخصيص، أي تخصيص قنوات حسب اهتمامات المشاهدين، فعشاق البرامج الدينية لهم قنواتهم، وعشاق البرامج الرياضية والمباريات لهم قنواتهم، وعشاق الأفلام لهم قنواتهم، وعشاق الغناء والموسيقى لهم قنواتهم، وعشاق الألوان الشعبية لهم نصيب من ذلك أيضا، وهكذا إلى ما لا نهاية.
قد يبدو الأمر طبيعيا، بل يدخل في باب حرية المشاهدة، وهو كذلك في الصورة العامة. وقد تقبل هذه القنوات في الدول الديمقراطية الحقة التي وجد الفرد فيها حقوقه السياسية والمدنية كاملة، وتصبح القنوات المتخصصة بالنسبة له الترف الذي يكمل حريته الشخصية. لكن الأمر في العالم الثالث يبدو مختلفا ويحتاج لإعادة نظر.

فلسفة الدول غير الديمقراطية في تخصيص قنوات التلفزيون هو إشغال العقول، وعزل الأفراد عن بعضهم عن طريق ترغيبهم فيما يحبون، وتزهيدهم فيما لا يرغبون. وعليه قطع الصلات السياقية بين الفئات الاجتماعية فلا يلتقون في الرأي، ولا يتشكلون عبر منظومة حقوقية واحدة. هناك الكثير من الظواهر السلبية الناتجة عن إعلام القنوات التلفزيونية المتخصصة. فبعد أن كان التلفزيون يجمع أصبح يشتت، فنادرا ما يجتمع اثنان في منزل واحد لمشاهدة قناة واحدة. وقد أصبح الأمر في حكم المعتاد. ومسألة تفتيت الجماعات تزداد بتزايد وسائل التواصل الاجتماعية الحديثة، ورغم الإيجابيات التي لا ينكرها أحد، فإن أخطارها على تكوين شخصيات الأفراد مدمرة. أخطرها العزلة الاجتماعية، والإحساس بعدم الرغبة في التواصل. وقد يبدو الملاحظ الآن عكس ما أطرحه، لكن تكنولوجيا التواصل تشتغل بمهنية عالية في تمكين التكنولوجيا من الأفراد حتى لا يستطيع أحد التفكير خارجها.
في هذه الحالة تصل الفرقة بين الفئات الاجتماعية إلى حد التنافر الذي لا لقاء معه، كل فئة لها إعلامها وبرامجها، وفي المحصلة النهائية تباين طبقي يكرسه الإعلام الذي من المفترض أن يبني جسور التلاقي لا أن يسهم بحرفية عالية في تكريس العزلة الاجتماعية. فليس صحيحا أن القنوات الإخبارية يشاهدها الجميع، فهي تلبي احتياج فئة عمرية معينة بهموم حاضرها وتحولات مستقبلها. والقنوات الرياضية تسهم في إغراق مشاهديها بفيض من الأحداث التي لا ينتهي أحدها حتى يبدأ الآخر مع ما تثيره من نزعات وتوترات مختلقة. وهي موجهة لفئة الشباب الذين هم في طور التكوين ذهنيا وبدنيا، تربويا وتعليميا. من هنا فثقافة الرياضة تسود على التفكير بما تحمله من جرعات تتجاوز الحد المعقول. أما قنوات البرامج الدينية فهي تستهدف استمالة العقول وتجييشها نحو الفكر الأخروي أكثر من التوازن بين متطلبات واقعهم وحياتهم الأخروية. وكل القنوات المتخصصة تلعب أدوارا مختلفة في ظاهرها، لكنها متحدة في الغاية.
إن خطر هذه القنوات يكمن في بنيتها الممتدة، حيث بدأت سياسية ورياضية ومنوعة، ويمكن استيعاب هذا النوع من القنوات المتخصصة، لكن أن تصل إلى قنوات تذيع النعرات القبلية، وأخرى متعصبة دينيا، وثالثة محرضة على الرذيلة تستهدف الشباب والأسر، فيبدو أنها موجهة بعناية لإثارة شروخ في بناء النسيج الاجتماعي الإنساني والأخلاقي..
يفترض في صناعة الإعلام عموما، والتلفزيوني خاصة، التنوير وبناء الوحدة الاجتماعية، لكن رغم ما يملكه الإعلام من إمكانات، فإنها إمكانات تسهم في التجهيل والتفتيت.