هذه الجولة في مركز اليتمة تكشف عن قرى تعيش تحت خط الفقر حيث لا أثر لوجود الخدمات فيها وسط طرق صحراوية وآبار قد طمرتها السيول ما أدى لموت المزارع وهجران الأهالي للزراعة بعد أن كانت قراهم تمثل سلة غذاء المدينة.. بدأنا الجولة بتفقد أحوال أسر تسكن على ضفاف وادي النقيع ذي المساحة الشاسعة والأرض البيضاء.. يبلغ طوله (150) كلم وتصب فيه روافد وأودية صغيرة متعددة منها أودية (صخوى، والنبعه، وضاف، واليتمه، والحنو، وريم، وكلها تأتي من جهة الغرب إضافة إلى عدة شعاب تحيط بها بمحاذاة جبال شاهقة.
لم تتأخر الصدمة فكان أول أسرة زرناها ووقفنا على حالها على بعد (30) كلم شرق مركز اليتمه، تسكن منذ عدة أعوام داخل غرفتين «هناجر» فبمجرد أن اقتربنا من منزلهم خرج إلينا عدد كبير من الأطفال من تلك الغرف (لاتتجاوز مساحتها (5×4 متر) وبجوارها خيمة صغيرة وحظيرة شبه خاوية، جاء والدهم (عوض الجابري) (62) عاماً ورحب بنا .. وخلال حديثه أوضح بأنهم يقيمون في هذا المكان منذ (17) عاماً ولايستطيعون الانتقال منه لضيق الحال وأضاف : قبل أسابيع هطلت أمطار على المنطقة قطعت الطرق وحولتها إلى مستنقعات, لم يذهب أبنائي وبناتي للمدارس في اليتمه لمدة ثلاثة أيام، وعن ظروفهم المعيشية يقول الجابري : يصرف لي مبلغ (1725) ريالا مرتبا تقاعديا شهريا حيث كنت أعمل في مركز صحي اليتمة قبل عدة سنوات وهذا المبلغ بالكاد أتدبر به مصاريف دراسة أبنائي وبناتي، فيما أسرتي تتكون من زوجتين و(24) فرداً بينهم ثلاثة بدون عمل.
سند السهلي أحد سكان وادي النقيع ويبلغ من العمر (109) أعوام ولا يسمع ولا يتكلم .. يقول أحد أبنائه بأنهم يعيشون في خيام بالية منذ أكثر منذ اثني عشر عاماً وأحياناً يجدون أنفسهم في العراء حيث تقتلع الرياح الشديدة والأمطار خيامهم، ثم يعيدون جمعها وبناءها في بطن الوادي.
تعطل الآبار وموت المزارع
أهالي القرى التابعة لليتمه كان اعتمادهم بشكل كلي على الزراعة حتى السنوات القليلة الماضية وتحديداً منذ العام (1425هـ) حيث شهدت خلالها المنطقة سيولا جارفة خرّبت عشرات المزارع واقتلعت آلاف الأشجار وعطلت عشرات الآبار وقطعت أوصال قرى اليتمة النائية وطرقاتها الصحراوية ولازالت آثارها حتى اليوم وكانت نقطة تحول في حياة أهالي القرى الواقعة على سفوح الجبال وبطون الأودية وخلف التضاريس الوعرة، فخلال الجولة اتضح بأن هناك عدة عوامل أدت لتفشي الفقر وتردي الأحوال المعيشية في اليتمة والقرى التابعة لها بشكل كبير، كان من أبرز تلك العوامل النقص الحاد في المياه نتيجة نضوب المياه الجوفية وتهدم الآبار بفعل السيول التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الخمس الماضية، إضافة إلى قرار أمانة المنطقة بمنع الأهالي من إقامة العقوم الترابية التي تحفظ المياه خلال موسم هطول الأمطار للاستفادة منها في أعمال الري وسقيا المزارع لعدة أشهر وحفظها في باطن الأرض لترتوي منها المزارع بحجة أنها تؤدي إلى تلف المزارع نظراً لعدم قدرتها على صدّ كميات كبيرة جدا من المياه وانهيار تلك العقوم الترابية أمام قوة دفع السيول وغزارة الأمطار، فبعد أن جرفت السيول الآبار وأعداداً كبيرة من المزارع وحولتها إلى أراض موات لا نبت فيها ولا ثمار، لم يملك غالبية الأهالي سوى ترك مزارعهم والعزوف عن أعمال الزراعة التي كانت تمثل مصدر الدخل الوحيد.
أحد الأهالي كان يرافقني في الجولة حكى لي أسباب تفشي الفقر في القرى الواقعة بمحاذاة وادي النقيع، قائلاً ان ما تراه العين ليس كما تسمعه الأذن، وألمح أن خلف هذه الجبال الشاهقة والتضاريس الوعرة العديد من المآسي والقصص المحفورة في ذاكرة أهالي اليتمة والقرى التابعة لها .. تحمست لاستكمال الجولة والتوغل إلى حيث يقبع عدد كبير من الأهالي رغم وعورة الطرق ومخاطر انقطاع السبل بنا خلف تلك الجبال التي لاكهرباء فيها ولا ماء ولا أبراج اتصال، فيما تتميز تلك المناطق ببرودة الطقس كونها تقع وسط تجمع من الجبال والمرتفعات، فبعد ساعتين من السير في طرق وعرة قطعنا خلالها مسافة تزيد عن (30) كلم، شد انتباهي عدة مساكن تحت سفح أحد الجبال تتكون من بيوت شعبية متهالكة كان يساورني الشك بألا أحد يعيش فيها، ولكن رفيقي أكد لي أن هذه البيوت والتي بنيت من الطوب فقط قبل عشرات السنين، تقيم فيها عدة أسر وتضم معاقين ومرضى سرطان أشرت لرفيقي الذي يقود السيارة بالتوجه نحوهم، ولأول وهلة لاحظت بأن تلك المساكن يعود تاريخ بنائها لعشرات السنين وعند وصولنا خرج إلينا بضعة أطفال يلبسون ملابس رثّه لاتكاد تقيهم من البرد، يقول رب الأسرة إن العائل الوحيد لهم هو جمعية البر الخيرية باليتمه حيث يترقبون بداية كل شهر الإعانة الشهرية التي تقدمها، حيث تقوم الجمعية بتفقد أحوال الأسر عن طريق مندوبيها وبتوصيل المعونات لها.
فرشة الشامي
هي احدى قرى اليتمة التي تعيش تحت خط الفقر وتعشعش فيها حكايات المسّ والجن حيث زرنا ثلاثة منازل في القرية كل منها يضم مريضاً نفسياً أو أكثر بقصص عجيبة لاتزال تثير استغراب ومخاوف أهالي القرى المجاورة: يقول بندر السهلي أحد أهالي اليتمة بأن الجمعية الخيرية طلبت من الأهالي اخلاءها والانتقال بعيداً عن وادي (الشامي) بعد أن ازداد عدد المصابين بالامراض النفسية والجنون ومن تلك القصص أن أحدهم يقيم في قمة أحد الجبال المرتفعة ولاينزل منه إلا لأخذ الطعام والشراب واللحاف، اضافة الى قصة فتاة في العقد الثالث من عمرها لا تستطيع الوقوف على قدميها منذ سنوات ولم يترك أهلها طبيباً أو شيخاً، فضلاً عن مخاطر الذئاب المفترسة التي قضت على أعداد كبيرة من الأغنام، فلا يكاد يمضي يوم إلا وتتناقل الأسر التي تسكن (فرشة الشامي) خبراً عن فتك الذئاب بإحدى أو مجموعة من أغنام أحد الأهالي.
جفاف آبار المياه
فيما شغلهم الشاغل يومياً هو توفير المياه سواء الشرب أو لسقيا أغنامهم حيث أن الآبار التي كانت توفر لهم المياه قد تهدمت جميعها جراء السيول في العام (1425هـ) فيما قام بعض المحسنين بإعادة ترميم الآبار التي طمرتها السيول لكنهم فوجئوا بأن مياهها نضبت تماماًَ فتوقفوا عن ترميم بقية الآبار المهدمة، فأصبحت خاوية ومعطلة منذ أكثر من عام، فيما انعكس نضوب مياه الآبار وصعوبة شراء المياه من القرى المجاورة لليتمه يومياً على أعمال الزراعة التي كانت تمثل المورد الوحيد لأهالي فرشة الشامي كما هو حال كافة قرى اليتمه حيث أصيبت أعمال الزراعة بشلل شبه تام ساهم في ذلك وبشكل مباشر وعورة الطرق في القرى الواقعة شرق وادي النقيع.
«عكاظ» رصدت حجم معاناة ساكني وادي (فرشة الشامي) حيث تعيش عشرات الأسر الفقيرة في صنادق وهناجر يعيدون لملمة أجزائها كلما حوّلها السيل إلى أشلاء متناثرة في بطن الوادي.
يقول (مسعود اللهيبي): بعض الأهالي يقيمون في وادي فرشة الشامي منذ عشرات السنين ولايستطيعون الخروج منه لقلة إمكاناتهم المادية وعدم توفر المكان البديل مطالباً بإيجاد بدائل لإخراجهم منه.
العم مهل مسعد (82) عاماً .. وزوجته (مقبوله) (76) سنة يجسدان جانباً من معاناة أهالي وادي فرشة الشامي حيث يسكنان لوحدهما في بيت شعبي مهترئ مبني من الطوب يقع على سفح أحد الجبال، .. اللهيبي يصف وضعه وزوجته في البيت الصغير الذي يعود تاريخ بنائه لأكثر من ثلاثين عاماً فيقول : ابني الوحيد (صيفي 25 سنة) أصيب بمس قبل سنوات ويعيش منذ ذلك الحين في مستشفى الصحة النفسية في المدينة المنورة والآن هو (مختل عقلياً)، وبقينا في هذا المنزل المتهالك الذي تداهمنا فيه الثعابين القادمة من وسط الوادي كثيراً .. وطعامنا الدقيق والأرز الأبيض فقط .. ولو نموت ياولدي والله لن يعلم بنا أحد!!
بيوت متهالكة
قرية صوري تعد من أكثر وأشد قرى اليتمه فقراً فهي تضم عشرات المنازل والتجمعات السكانية على سفوح الجبال، ومايثير الدهشة بأن تلك القرى تحتضن عشرات المزارع المحاطة بسياج حديدي (شبك) ليس بداخلها سوى أراضٍ قاحلة وبقايا جذوع النخل وآبار مهدمة ومعطلة .. فيما تحتضن قصصاً ومعاناة أكثر مأساة: يقول مسعد الحربي (65) عاماً أحد أهالي قرية صوري ويسكن في منزل شعبي متهالك ويخشى سقوطه في أي لحظة على أفراد أسرته المكونة من (18) شخصاً : لدي ثلاث بنات معاقات إحداهن في الرابعة من عمرها واثنتان كبيرتان داخل هذا المنزل، ولا أدري كيف وأين أعالجهن فالحال كما ترى وتشاهد، لا أستطيع الذهاب بعيداً عنهم وأخي الأكبر مني سناً يقيم في منزل شعبي قريباً مني وحاله ليس بأفضل مني واعتمادنا على الله ثم على ما تقدمه لنا الجمعية من غذاء كل شهر، كما أن السيارة الوحيدة التي لدينا أنا وأخي تتعطل أحياناً وتبقى عدة أسابيع حتى يأتي من يصلحها لنا من أهل الخير.
المأساة لم تقتصر على شح الموارد الغذائية بعد موت عدد كبير من المزارع أو انعدام موارد المياه في قرى اليتمه بل أن بعد المركز الصحي الوحيد عن كافة القرى التابعة لليتمه يجعل المخاطر تزداد على الأهالي لاسيما وأن سكان بعض القرى يتعرضون بشكل مستمر للدغات الأفاعي والثعابين والعقارب وبعض القرى النائية تبعد عن مركز صحي اليتمه الذي يتطلب الوصول اليه ساعة على الأقل مايعني بأن الحالات المرضية سوف تزداد سوءاً لاسيما حالات التسمم، موضحاً بأن قرى اليتمه التي يبلغ عددها ثلاثين قرية وهجرة ويبلغ عدد سكانها (15) ألف نسمه بمساحاتها الشاسعة لايوجد بها سوى مركز صحي واحد في اليتمه، فيما يشكل الشباب أكثر من (75%) من سكان اليتمه والقرى التابعة لها.
700 أسرة تعيش على فتات الجمعيات
يقول عبد الله السهلي مدير جمعية البر الخيرية باليتمه بأن الجمعية تقدم معونات لأكثر من (720) أسرة فقيرة، وقد قسمت هذه الأسر إلى ثلاث فئات:
الفئة (أ) وتحصل على إعانة شهرية عبارة عن سلة غذائية متنوعة، حيث لايمكن تأخير الإعانة عنها نظراً لأن الأسرة ليس لها عائل أو دخل شهري وهم يعتمدون على الجمعية بشكل كامل، والفئة (ب) وهي أسر تحصل على إعانة كل ثلاثة أشهر تقريباً بحسب الكميات المتوفرة من المواد الغذائية، فيما الأسر فئة (ج) وتحصل على إعانة في أشهر شعبان ورمضان وكذلك حقائب مدرسية بداية كل فصل دراسي لكل الفئات، وعن ما تقدمه الجمعية يقول السهلي أن السلة الغذائية التي تقدمها الجمعية تشمل (5) كيلو غرام أرز، وكيس دقيق وسكرا وشايا وزيتا و(3) معلبات فول لكل أسرة.
ويقول بندر حامد مسئول الحسابات في الجمعية بأن الجمعية تواجه في بعض الأحيان نقصا في مواردها حيث تنفذ عدة مشاريع من ضمنها مشروع السلة الغذائية ومشروع كفالة الأيتام حيث تكفل الجمعية (110) أيتام بقرى اليتمه وقد أنهت الجمعية مؤخراً بناء ثلاثة منازل صغيرة لإسكان ثلاث أسر بها أرامل وأيتام كانوا يعيشون في القرى النائية وذلك بمساعدة من بعض المتبرعين، إضافة إلى مشروع السقيا بالوايتات حيث قامت الجمعية خلال العامين الماضيين بإنشاء عدد (9) خزانات لسقيا الأهالي بسبب النقص الحاد في مياه الشرب في اليتمه وكافة القرى التابعة لها ونقوم بشرائها من قرية (آبار الماشي) وقرية (العشيرة) يومياً بسعر (70) ريالاً.
لم تتأخر الصدمة فكان أول أسرة زرناها ووقفنا على حالها على بعد (30) كلم شرق مركز اليتمه، تسكن منذ عدة أعوام داخل غرفتين «هناجر» فبمجرد أن اقتربنا من منزلهم خرج إلينا عدد كبير من الأطفال من تلك الغرف (لاتتجاوز مساحتها (5×4 متر) وبجوارها خيمة صغيرة وحظيرة شبه خاوية، جاء والدهم (عوض الجابري) (62) عاماً ورحب بنا .. وخلال حديثه أوضح بأنهم يقيمون في هذا المكان منذ (17) عاماً ولايستطيعون الانتقال منه لضيق الحال وأضاف : قبل أسابيع هطلت أمطار على المنطقة قطعت الطرق وحولتها إلى مستنقعات, لم يذهب أبنائي وبناتي للمدارس في اليتمه لمدة ثلاثة أيام، وعن ظروفهم المعيشية يقول الجابري : يصرف لي مبلغ (1725) ريالا مرتبا تقاعديا شهريا حيث كنت أعمل في مركز صحي اليتمة قبل عدة سنوات وهذا المبلغ بالكاد أتدبر به مصاريف دراسة أبنائي وبناتي، فيما أسرتي تتكون من زوجتين و(24) فرداً بينهم ثلاثة بدون عمل.
سند السهلي أحد سكان وادي النقيع ويبلغ من العمر (109) أعوام ولا يسمع ولا يتكلم .. يقول أحد أبنائه بأنهم يعيشون في خيام بالية منذ أكثر منذ اثني عشر عاماً وأحياناً يجدون أنفسهم في العراء حيث تقتلع الرياح الشديدة والأمطار خيامهم، ثم يعيدون جمعها وبناءها في بطن الوادي.
تعطل الآبار وموت المزارع
أهالي القرى التابعة لليتمه كان اعتمادهم بشكل كلي على الزراعة حتى السنوات القليلة الماضية وتحديداً منذ العام (1425هـ) حيث شهدت خلالها المنطقة سيولا جارفة خرّبت عشرات المزارع واقتلعت آلاف الأشجار وعطلت عشرات الآبار وقطعت أوصال قرى اليتمة النائية وطرقاتها الصحراوية ولازالت آثارها حتى اليوم وكانت نقطة تحول في حياة أهالي القرى الواقعة على سفوح الجبال وبطون الأودية وخلف التضاريس الوعرة، فخلال الجولة اتضح بأن هناك عدة عوامل أدت لتفشي الفقر وتردي الأحوال المعيشية في اليتمة والقرى التابعة لها بشكل كبير، كان من أبرز تلك العوامل النقص الحاد في المياه نتيجة نضوب المياه الجوفية وتهدم الآبار بفعل السيول التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الخمس الماضية، إضافة إلى قرار أمانة المنطقة بمنع الأهالي من إقامة العقوم الترابية التي تحفظ المياه خلال موسم هطول الأمطار للاستفادة منها في أعمال الري وسقيا المزارع لعدة أشهر وحفظها في باطن الأرض لترتوي منها المزارع بحجة أنها تؤدي إلى تلف المزارع نظراً لعدم قدرتها على صدّ كميات كبيرة جدا من المياه وانهيار تلك العقوم الترابية أمام قوة دفع السيول وغزارة الأمطار، فبعد أن جرفت السيول الآبار وأعداداً كبيرة من المزارع وحولتها إلى أراض موات لا نبت فيها ولا ثمار، لم يملك غالبية الأهالي سوى ترك مزارعهم والعزوف عن أعمال الزراعة التي كانت تمثل مصدر الدخل الوحيد.
أحد الأهالي كان يرافقني في الجولة حكى لي أسباب تفشي الفقر في القرى الواقعة بمحاذاة وادي النقيع، قائلاً ان ما تراه العين ليس كما تسمعه الأذن، وألمح أن خلف هذه الجبال الشاهقة والتضاريس الوعرة العديد من المآسي والقصص المحفورة في ذاكرة أهالي اليتمة والقرى التابعة لها .. تحمست لاستكمال الجولة والتوغل إلى حيث يقبع عدد كبير من الأهالي رغم وعورة الطرق ومخاطر انقطاع السبل بنا خلف تلك الجبال التي لاكهرباء فيها ولا ماء ولا أبراج اتصال، فيما تتميز تلك المناطق ببرودة الطقس كونها تقع وسط تجمع من الجبال والمرتفعات، فبعد ساعتين من السير في طرق وعرة قطعنا خلالها مسافة تزيد عن (30) كلم، شد انتباهي عدة مساكن تحت سفح أحد الجبال تتكون من بيوت شعبية متهالكة كان يساورني الشك بألا أحد يعيش فيها، ولكن رفيقي أكد لي أن هذه البيوت والتي بنيت من الطوب فقط قبل عشرات السنين، تقيم فيها عدة أسر وتضم معاقين ومرضى سرطان أشرت لرفيقي الذي يقود السيارة بالتوجه نحوهم، ولأول وهلة لاحظت بأن تلك المساكن يعود تاريخ بنائها لعشرات السنين وعند وصولنا خرج إلينا بضعة أطفال يلبسون ملابس رثّه لاتكاد تقيهم من البرد، يقول رب الأسرة إن العائل الوحيد لهم هو جمعية البر الخيرية باليتمه حيث يترقبون بداية كل شهر الإعانة الشهرية التي تقدمها، حيث تقوم الجمعية بتفقد أحوال الأسر عن طريق مندوبيها وبتوصيل المعونات لها.
فرشة الشامي
هي احدى قرى اليتمة التي تعيش تحت خط الفقر وتعشعش فيها حكايات المسّ والجن حيث زرنا ثلاثة منازل في القرية كل منها يضم مريضاً نفسياً أو أكثر بقصص عجيبة لاتزال تثير استغراب ومخاوف أهالي القرى المجاورة: يقول بندر السهلي أحد أهالي اليتمة بأن الجمعية الخيرية طلبت من الأهالي اخلاءها والانتقال بعيداً عن وادي (الشامي) بعد أن ازداد عدد المصابين بالامراض النفسية والجنون ومن تلك القصص أن أحدهم يقيم في قمة أحد الجبال المرتفعة ولاينزل منه إلا لأخذ الطعام والشراب واللحاف، اضافة الى قصة فتاة في العقد الثالث من عمرها لا تستطيع الوقوف على قدميها منذ سنوات ولم يترك أهلها طبيباً أو شيخاً، فضلاً عن مخاطر الذئاب المفترسة التي قضت على أعداد كبيرة من الأغنام، فلا يكاد يمضي يوم إلا وتتناقل الأسر التي تسكن (فرشة الشامي) خبراً عن فتك الذئاب بإحدى أو مجموعة من أغنام أحد الأهالي.
جفاف آبار المياه
فيما شغلهم الشاغل يومياً هو توفير المياه سواء الشرب أو لسقيا أغنامهم حيث أن الآبار التي كانت توفر لهم المياه قد تهدمت جميعها جراء السيول في العام (1425هـ) فيما قام بعض المحسنين بإعادة ترميم الآبار التي طمرتها السيول لكنهم فوجئوا بأن مياهها نضبت تماماًَ فتوقفوا عن ترميم بقية الآبار المهدمة، فأصبحت خاوية ومعطلة منذ أكثر من عام، فيما انعكس نضوب مياه الآبار وصعوبة شراء المياه من القرى المجاورة لليتمه يومياً على أعمال الزراعة التي كانت تمثل المورد الوحيد لأهالي فرشة الشامي كما هو حال كافة قرى اليتمه حيث أصيبت أعمال الزراعة بشلل شبه تام ساهم في ذلك وبشكل مباشر وعورة الطرق في القرى الواقعة شرق وادي النقيع.
«عكاظ» رصدت حجم معاناة ساكني وادي (فرشة الشامي) حيث تعيش عشرات الأسر الفقيرة في صنادق وهناجر يعيدون لملمة أجزائها كلما حوّلها السيل إلى أشلاء متناثرة في بطن الوادي.
يقول (مسعود اللهيبي): بعض الأهالي يقيمون في وادي فرشة الشامي منذ عشرات السنين ولايستطيعون الخروج منه لقلة إمكاناتهم المادية وعدم توفر المكان البديل مطالباً بإيجاد بدائل لإخراجهم منه.
العم مهل مسعد (82) عاماً .. وزوجته (مقبوله) (76) سنة يجسدان جانباً من معاناة أهالي وادي فرشة الشامي حيث يسكنان لوحدهما في بيت شعبي مهترئ مبني من الطوب يقع على سفح أحد الجبال، .. اللهيبي يصف وضعه وزوجته في البيت الصغير الذي يعود تاريخ بنائه لأكثر من ثلاثين عاماً فيقول : ابني الوحيد (صيفي 25 سنة) أصيب بمس قبل سنوات ويعيش منذ ذلك الحين في مستشفى الصحة النفسية في المدينة المنورة والآن هو (مختل عقلياً)، وبقينا في هذا المنزل المتهالك الذي تداهمنا فيه الثعابين القادمة من وسط الوادي كثيراً .. وطعامنا الدقيق والأرز الأبيض فقط .. ولو نموت ياولدي والله لن يعلم بنا أحد!!
بيوت متهالكة
قرية صوري تعد من أكثر وأشد قرى اليتمه فقراً فهي تضم عشرات المنازل والتجمعات السكانية على سفوح الجبال، ومايثير الدهشة بأن تلك القرى تحتضن عشرات المزارع المحاطة بسياج حديدي (شبك) ليس بداخلها سوى أراضٍ قاحلة وبقايا جذوع النخل وآبار مهدمة ومعطلة .. فيما تحتضن قصصاً ومعاناة أكثر مأساة: يقول مسعد الحربي (65) عاماً أحد أهالي قرية صوري ويسكن في منزل شعبي متهالك ويخشى سقوطه في أي لحظة على أفراد أسرته المكونة من (18) شخصاً : لدي ثلاث بنات معاقات إحداهن في الرابعة من عمرها واثنتان كبيرتان داخل هذا المنزل، ولا أدري كيف وأين أعالجهن فالحال كما ترى وتشاهد، لا أستطيع الذهاب بعيداً عنهم وأخي الأكبر مني سناً يقيم في منزل شعبي قريباً مني وحاله ليس بأفضل مني واعتمادنا على الله ثم على ما تقدمه لنا الجمعية من غذاء كل شهر، كما أن السيارة الوحيدة التي لدينا أنا وأخي تتعطل أحياناً وتبقى عدة أسابيع حتى يأتي من يصلحها لنا من أهل الخير.
المأساة لم تقتصر على شح الموارد الغذائية بعد موت عدد كبير من المزارع أو انعدام موارد المياه في قرى اليتمه بل أن بعد المركز الصحي الوحيد عن كافة القرى التابعة لليتمه يجعل المخاطر تزداد على الأهالي لاسيما وأن سكان بعض القرى يتعرضون بشكل مستمر للدغات الأفاعي والثعابين والعقارب وبعض القرى النائية تبعد عن مركز صحي اليتمه الذي يتطلب الوصول اليه ساعة على الأقل مايعني بأن الحالات المرضية سوف تزداد سوءاً لاسيما حالات التسمم، موضحاً بأن قرى اليتمه التي يبلغ عددها ثلاثين قرية وهجرة ويبلغ عدد سكانها (15) ألف نسمه بمساحاتها الشاسعة لايوجد بها سوى مركز صحي واحد في اليتمه، فيما يشكل الشباب أكثر من (75%) من سكان اليتمه والقرى التابعة لها.
700 أسرة تعيش على فتات الجمعيات
يقول عبد الله السهلي مدير جمعية البر الخيرية باليتمه بأن الجمعية تقدم معونات لأكثر من (720) أسرة فقيرة، وقد قسمت هذه الأسر إلى ثلاث فئات:
الفئة (أ) وتحصل على إعانة شهرية عبارة عن سلة غذائية متنوعة، حيث لايمكن تأخير الإعانة عنها نظراً لأن الأسرة ليس لها عائل أو دخل شهري وهم يعتمدون على الجمعية بشكل كامل، والفئة (ب) وهي أسر تحصل على إعانة كل ثلاثة أشهر تقريباً بحسب الكميات المتوفرة من المواد الغذائية، فيما الأسر فئة (ج) وتحصل على إعانة في أشهر شعبان ورمضان وكذلك حقائب مدرسية بداية كل فصل دراسي لكل الفئات، وعن ما تقدمه الجمعية يقول السهلي أن السلة الغذائية التي تقدمها الجمعية تشمل (5) كيلو غرام أرز، وكيس دقيق وسكرا وشايا وزيتا و(3) معلبات فول لكل أسرة.
ويقول بندر حامد مسئول الحسابات في الجمعية بأن الجمعية تواجه في بعض الأحيان نقصا في مواردها حيث تنفذ عدة مشاريع من ضمنها مشروع السلة الغذائية ومشروع كفالة الأيتام حيث تكفل الجمعية (110) أيتام بقرى اليتمه وقد أنهت الجمعية مؤخراً بناء ثلاثة منازل صغيرة لإسكان ثلاث أسر بها أرامل وأيتام كانوا يعيشون في القرى النائية وذلك بمساعدة من بعض المتبرعين، إضافة إلى مشروع السقيا بالوايتات حيث قامت الجمعية خلال العامين الماضيين بإنشاء عدد (9) خزانات لسقيا الأهالي بسبب النقص الحاد في مياه الشرب في اليتمه وكافة القرى التابعة لها ونقوم بشرائها من قرية (آبار الماشي) وقرية (العشيرة) يومياً بسعر (70) ريالاً.