-A +A
عادل عبدالرحمن «جدة»
لم


يعرفوا بعد ماهية الأحلام وتعريف الأمنيات، هطلت على رأسهم الأقدار الحزينة بغزارة ولم يجدوا مظلة تقيهم بأسها ومصائبها الحادة، فيما رياح سفنهم أخذتهم إلى بحر لجي لا قرار له، مسنون وعجزة ومقعدون أعيتهم الفاقة وأضحت المعاناة تسكن أفئدتهم وتحفظ ملامحهم عن ظهر قلب، في أحد أوقاف الأربطة الخيرية بجدة يجتمعون وكأنهم في انتظار الأجل وصعود الروح إلى بارئها، «عكاظ» رصدت عددا من القصص الإنسانية المؤثرة وكشفت النقاب عن ظروف الحياة ومفارقاتها معهم، ورغم ماضيهم المتباين من حالة لأخرى غير أنهم اجتمعوا في مكان واحد بعد انقضاء سنين العمر وصولا إلى خريفه واقتراب النهاية.





مكية عملت في قصر الإمام أحمد
«ليس لي شيء في الدنيا ومعي فقط نفسي العزيزة» هكذا تبدأ مكية علي أحمد وتضيف: عندما كنت في منتصف العقد الثاني من عمري عملت في قصر الإمام أحمد باليمن عاملة نظافة وغيرها من الأعمال المنزلية وبعدها خرجت وساءت أحوالي فقررت الذهاب إلى المملكة لأعمل وكنت في مدينة جدة وحصل لي حادث سير أقعدني على السرير الأبيض لثلاثة أشهر بعدها استطعت العمل عند إحدى العائلات في مدينة الطائف وأحاطتني الأسرة بالكرم إلى أن توفي عائلها وبعد ذلك ظل ابنه يعطيني مبلغا من المال حتى توفاه الله هو الآخر ثم عدت إلى جدة وأمدني أهل الخير بالكثير من المؤن الغذائية والاحتياجات اللازمة التي تؤمن معيشتي في إحدى الجمعيات الخيرية، وتتحدث «مكية» التي تبلغ الخامسة والسبعين من العمر عن أنها في طفولتها كانت يتيمة ووحيدة ولم يسبق لها الزواج مضيفة بأن جدولها اليومي لم يتغير في السكن هنا منذ دخولها قبل 25 عاما حيث تتجول في البناية وتتحدث مع عدد من جاراتها وتتابع الأخبار خاصة عبر القنوات الأجنبية لأن لغتها الإنجليزية جيدة بحسب قولها، وتأمل فقط في أن تتحسن قدمها لتمشي بشكل جيد وأن تموت في هدوء.
صالح .. طالب علم التقى بن باز
بينما يكشف المسن صالح عوض يحيى بأن دخوله إلى المملكة كان بحثا وطلبا للعلم حيث يقول: كنت في اليمن ودخلت إلى السعودية عام 1406هـ لطلب العلم فقط وما أريده هو أن أتوسع في الدين وأن أعرف المزيد عنه، ويضيف: ذهبت إلى الحرم المكي الشريف واعتمرت وأكملت ركن الحج العظيم ومضيت نحو دار الحديث الخيرية لأستزيد في طلب العلم غير أن الدار أخبرتني بضرورة أن يكون لدي شهادة وهو ما لا أمتلكه ومكثت أعمل أجيرًا هنا وهناك وانتقلت بعدها إلى الرياض لطلب العلم والتقيت بالشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله الذي كان مصغيا لي بشكل مدهش ويملأه التواضع والأدب رغم علمه الغزير ومكانته العظيمة وأخبرته عن رغبتي باستزادتي في تعلم أمور ديني ثم ذهبت إلى مسجد الشيخ عبدالرحمن الفريان رحمه الله وبقيت في المسجد لأكثر من سنة وتعلمت في حلقة تحفيظ القرآن وكنت عاملا بالمسجد ودخلت في حلقات التحفيظ والدروس الدينية وأخذت ما تيسر من العلم والتوحيد والعقيدة وزاد: بعدها استقريت في جدة ولكني لم أكن أملك المال واضطررت إلى الاقتراض من الذين أسكن لديهم حيث كانت حالتي الصحية لا تسمح لي بالعمل بسبب إعاقة في قدمي لا تمكنني من المشي كثيرا، ولفت إلى أن أوضاعه أصبحت معدمة تماما فجمع ما استطاع اقتناءه من الدنيا وحضر إلى الرباط الخيري منذ خمس سنوات، ويضيف: عندي مكتبة كبيرة تقدر بمئات الكتب داخل غرفتي الصغيرة التي تستوعبنا حيث أنام بينها لافتا بأنها تضم تفاسير القرآن وأصول الفقه وأخرى في الفتاوى والحديث إضافة إلى عدد من الكتب في العقيدة والتوحيد، وأشار إلى أن الله لم يرد له الزواج بسبب فقره الشديد والديون التي تبلغ 32 ألف ريال وهي مدونة لديه ويرغب فقط فيما تبقى له من عمر أن يتم تسديدها ليتخلص من هذه الديون قبل أن يفاجئه الأجل.
«عمر» عمل طباخا لسنوات في أكبر فنادق جدة
قصة عمر صالح الودعاني يحكيها بنفسه حيث يقول: اليوم أكمل 33 سنة منذ دخولي إلى المملكة وأحمد الله أنني في هذا الوضع رغم صعوبته الكبيرة لي ويتابع : عملت بعد قدومي إلى المملكة في فندق صغير بباب مكة مساعد طباخ بأجرة لا تزيد عن سبعة ريالات وبعدها انتقلت للعمل في أكثر من فندق حتى استطعت الحصول على عمل في أحد الفنادق الكبرى لستة أعوام وبمهنة طباخ وبعد هذه السنين تعرضت إلى حادث عرضي أصبت من خلاله في ظهري ولم أعد أقوى على الحركة الكثيرة ويرافقني هذا العكاز المتحرك، ويشير «عمر» إلى أنه وجد السكن في هذا الرباط مع زوجته التي لم تنجب له أبناء لكي يعيشا هذه الحياة ويكملا مشوارها.
«محمد شيخ» عامل بناء أقعده الشلل
من الصومال وصل محمد شيخ علي إلى المملكة قبل ربع قرن ويلتقط الحديث قائلا : حادث سيارة كان كفيلا بإصابتي بشلل نصفي بعد أن كنت أعمل في البناء وكنت وقتها متزوج ولدي سبعة أبناء أكبرهم في بداية العشرينات ويشير إلى أن الحاجة دعته إلى أن يلتحق بالسكن في هذا الرباط ويضيف: يؤلمني أنني لم أستطع أن أوفر لأبنائي التعليم وابنتي تحديدا التي ترغب في التعلم وذلك بسبب انعدام إمكانياتي المادية وأنا أسكن في هذا الوقف الخيري منذ ثمانية أعوام.
«محمد العطاس» يخرج للدنيا لصلاة الجمعة فقط
أكثر من أربعين عاما قضاها الثمانيني «محمد العطاس» في المملكة بعد مجيئه من حضرموت ويستطرد في قصة حياته بقوله: حينما قدمت هنا ذهبت إلى الحرم بمكة المكرمة وكنت أعمل في الأشغال اليدوية بهذه الأرض الطيبة لمدة ثلاث أعوام غير أنني تعرضت إلى السقوط من أحد البنايات وتسبّب ذلك بإقعادي بنسبة 90 % عن الحركة ويلفت إلى أنه استطاع الحصول على 14 ألف ريال وهي تكلفة العملية في أحد المستشفيات من فاعل خير لكنها لم تنجح في إعادة حركته، «العطاس» يواصل قائلا : أصبح الوضع سيئا للغاية واستطعت الدخول إلى السكن في هذا الرباط لأصبح منعزلا عن الحياة برفقة زوجتي التي خدمتني كثيرا ولا تزال كذلك ويشير بأنه يبقى في الغرفة أمام شاشة التلفاز ويقرأ القرآن الكريم ويتجاذب اطراف الحديث مع زوجته عن الماضي وما يخبئه لنا المستقبل ويؤكد بأنه لا يخرج من شقة السكن سوى لساعة واحدة حين يأتي أحد العاملين ليذهب به إلى المسجد المجاور ليؤدي صلاة الجمعة وهذا الأمر مستمر منذ دخوله هنا قبل 15 عاما، ويواصل قائلا: لدي عدد من الأبناء أحدهم في جدة ويزورني بشكل يومي لكنه رغم عمله إلا أن حالته صعبة، وينهي «العطاس» حديثه بدمعة تأبى إلا أن تخرج من عينيه الكسيرتين.