-A +A
زكي الميلاد
يعتقد هاشم صالح، في مقدمة كتابه (مدخل إلى التنوير الأوروبي) الصادر سنة 2005م، أن الشيء الأساسي في التجربة الأوروبية أنها تقدم للمثقف العربي في هذه الظروف المدلهة عزاء ما بعده عزاء، فهي تثبت له أن خوض المعركة من أجل تنوير العقول ممكن، وأن النجاح في هذه المعركة ممكن أيضا.
وأخطر ما توصل إليه صالح أنه شبه الاحتلال الأمريكي للعراق بتدخل نابليون بونابرت في القارة الأوروبية، عندما غزاها وحمل إليها أفكار الثورة الفرنسية في التنوير والحرية والإخاء والمساواة، معلنا صراحة أنه من أنصار التغيير في العراق والمنطقة بأسرها وما زال ــ على حد قوله، كما اعتبر أن الاتحاد الأوروبي على حق عندما دعا العرب والمسلمين إلى تغيير برامج التعليم الديني لديهم؛ لأنها تدرس الدين بطريقة تقليدية قروسطية عفا عليها الزمن.

عند النظر في هذه الرؤية بهذه القياسات، يمكن القول ــ من جهة ــ إن هاشم صالح ظهر بمظهر الإنسان الواثق والجازم، ولو أنه كان أقل وثوقا وجزما لخفف عليه وعلينا الحال ولهان الأمر، وتغيرت صورة الموقف بعض الشيء، ثم لماذا كل هذه الوثوقية والجزم في موضوع طالما أثار الشك والاختلاف، وظل وما زال في دائرة الجدل والسجال، الآراء فيه منقسمة، والمواقف فيه متباينة، منذ عصر رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر، إلى جيل المفكرين المعاصرين اليوم.
ومن جهة ثانية، أن صالح ظهر في هذه الرؤية بمظهر الإنسان المندفع والمتحمس، في مورد يحتاج بشدة إلى التروي والتبصر، والاندفاع فيه والحماس يكون أقل نفعا وأكثر ضررا؛ لأنه قد يخرج الإنسان عن اتزانه وتوازنه، ثم لماذا كل هذا الاندفاع والحماس في موضوع طالما اختلف فيه وعليه أهله وأصحابه قبل غيرهم، وجربه المجربون من قبل ولم يتفقوا عليه، ومن تحمس له في وقت تراجع عن حماسه في وقت آخر، وهناك من ارتد عليه وانقلب.
ومن جهة ثالثة، أن صالح ظهر في هذه الرؤية بمظهر الإنسان الذي يرى ذاته بمرآة غيره، وفي مرآة غيره، وبتراث غيره، وتاريخ غيره، وثقافة غيره، الغير الذي حول تنويره في خارج مجتمعه وعالمه ومحيطه إلى استعمار وأمبريالية واحتلال، التنوير الذي جعله ينظر إلى ذاته بوصفه يمثل مركزا وما دونه مجرد هوامش وأطراف وتوابع ومدارات حزينة.
ومن جهة رابعة، أظن أن الأوروبيين ــ أو بعضهم ــ لو أطلعوا على هذه الرؤية لأخذهم العجب والتعجب، ولقالوا: عجبا إلى الآن هناك من العرب والمسلمين من يفكر بهذه الطريقة وينظر لهذا الأمر بهذه التبعية وبهذا الانبهار والافتتان، وهم الذين غيروا رؤيتهم إلى ذاتهم وإلى تجربتهم وتنويرهم الذي لم يعد يمثل لهم مصدر دهشة واستلهام، ولعل نصيحتهم لنا ولغيرنا: من الأفضل لكم أن تكتشفوا لأنفسكم سبيلا غير هذا السبيل.
ولا أدري، متى يأتي الوقت والدور على هاشم صالح ليقول ــ كما قال غيره من قبل: إني كنت مندفعا ومتسرعا في هذا القول الذي بحاجة إلى مراجعة وتصحيح!.