-A +A
حمد عائل فقيهي
(1)
لا تصبح الأفكار أفكاراً حقيقية إلا عندما تتحول إلى واقع معاش.. وإلى ترجمة لأدبياتها ولا يمكن أن يكون هناك «مجتمع» متفاعل ومتفائل ما لم تتحقق على أرضه تلك الأفكار كناتج نهائي لمدى قدرة هذا المجتمع على الاستيعاب والدخول في محاورة كل الأفكار والتيارات التي تأتي من خارج الحدود بسبب الانفتاح والوعي بمتغيرات اللحظة الحضارية وتفاعلاتها.

والمشكلة أن القدرة على الفهم والاستيعاب لا تأتي بين ليلة وضحاها، وتقبل ما هو جديد لا يتأتى إلا بعد زمن حتى تتحول العلاقة مع الأفكار إلى علاقة تجاور من أجل أن تكون في حالة «ألفة» بينها وبين متلقيها..
ذلك أن المجتمع الممانع لكل تقدم والمانع لدخول أي جديد لا يمكنه أن يكون متصالحاً مع العصر وأفكاره وتياراته ما لم يكن لديه استعداد لفهم هذه الأفكار وهذه التيارات ومختلف الاتجاهات حتى يمكن لهذا المجتمع «الممانع» أن يتكون عليه ما يسمى بـ«التراكم المعرفي» وحينها فقط يمكن الحديث عن مجتمع آخر، أكثر استيعاباً للجديد من الأفكار والتيارات، وأكثر تسامحاً مع المختلف منها لا رافضاً لها.
ليس صحيحاً أن هناك مجتمعات عصية على الاستيعاب والفهم، ومن ثم الإيمان بأهمية التقدم، والأخذ بأسباب هذا التقدم.. العكس تماماً..
(2)
أقول كل هذا تأسيساً على ما قلته في مقالتي السابقة من «غياب الليبرالية العربية» فكراً وممارسة عن الحياة العربية، وحتى وإن تمثلت في نخبة عربية يظل دورها محصوراً ومحاصراً داخل الكتب وقاعات المحاضرات والندوات، لكن تظل هذه المسألة الفكرية لا علاقة لها بالواقع العربي لأن التربة الاجتماعية مازالت تربة معادية، وغير مستعدة ولا مستوعبة للأفكار والتيارات الجديدة نتيجة غياب التراكم المعرفي والوعي الحضاري.
(3)
ولأن ما أسميته بـ«سلطة المعرفة وسطوة الأعراف» وان هناك مسافة بين «أعراف» لها بعدها التاريخي وعمقها في الواقع الاجتماعي في الذهنية العربية، ولأنها تحولت إلى «سطوة» حقاً ليس بالإمكان زحزحتها.. وتفكيك أبجدياتها المعرفية التقليدية إلا بوجود ثقافة جديدة مضادة لها، وفكر حديث يحاول أن يتجاوزها ويتغلب عليها، ومن ثم يمكن أن يشكل نسقاً معرفياً يحمل سماته وملامحه وهويته الجديدة التي هي بالضرورة ليست ضد الماضي، ولكنها تستمد هذه الهوية الجديدة من هوية الماضي لتضيف اليها وتضيء من معارفها ومعالمها.
وأخيراً.. لا يمكن أن نصل إلى نقطة جوهرية ومفصلية في هذه القضية إلا بمدى تقبلنا لثقافة الآخر، وأن الأمر ليس بالسهولة التي لا يمكن التعامل معها بخفة ولكن بمدى تحويل الأفكار من حالة معرفية إلى حالة اجتماعية.
a_faqehi@hotmail.com