-A +A
شتيوي الغيثي
من الواضح تماما عند المراقب أن المجتمع السعودي متعدد الهويات الثقافية والفكرية داخل الهوية المركبة الأكبر (الإسلام/السعودية) من قبيل الهويات المذهبية أو المناطقية أو العادات أو التقاليد أو غيرها مما يعني أننا أمام شكل من أشكال التعدد السعودي ــ إذا صح الوصف ــ الشيء الذي يجعل التعددية أكبر بكثير من عمليات التنميط التي يحاولها البعض لأسباب عديدة ليس هنا محل الحديث عنها.
وفي خضم هذه الاختلافات والهويات المتعددة تنشأ متوالية من الأسئلة من قبيل: إلى أي حد يمكن قبول هذا الاختلاف؟ أو إلى أي مدى يمكن الحد من تشظي هذه الهويات بحيث لا يتحول إلى صراع ثقافي أكثر منه اختلافا ثقافيا مقبولا؟، أي كيف يمكن الحديث عن انسجام ثقافي بينها على تعددها؟.
في إطار الفلسفات الحديثة التي سعت إلى نقد الحداثة الغربية تظهر نظريات «التواصل» كمعين فكري واجتماعي ولغوي على لملمة شظايا الفلسفات الاختلافية. يبرز لدينا الفيسلوف يورغن هابرماس كأحد أهم فلاسفة ما بعد الحداثة من خلال حماسه الكبير في صياغة نظرية نقدية تواصلية حين قام بنقد العقل التنويري أو الحداثي بوصفه عقلا «أداتيا»، وإن كان مفهوم العقل الأداتي سابقا على نظرية التواصل عند هابرماس؛ إذ يذهب بعض الفلاسفة الغربيين خاصة في حقل الدراسات الاجتماعية، وتحديدا عند هوركهايمر، إلى أن العقل الأداتي هو العقل المسيطر على المجتمعات الرأسمالية الحديثة التي فقد فيها العقل دوره كملكة فكرية وتم تقليصه إلى مجرد أداة لتحقيق أهداف معينة، وبالتدرج فقد العقل رؤيته للهدف وأصبح مجرد أداة لتوفير الوسائل، وأدى ذلك إلى فقدان العقل للقدرة على الإدراك للحقائق في ذاتها، حيث أصبح كل شيء مجرد وسيلة، ولذلك فإن هابرماس يتكىء على نقد العقل الأداتي في الفكر الغربي المتمركز حول ذاته ليعيد ترتيب هذا العقل من خلال استبداله بـ «العقل التواصلي» .
تجدر الإشارة إلى أن هابرماس على الرغم من أنه أحد نقاد الحداثة الغربية؛ إلا أنه لم يقم بتقويضها كما فعل غيره، بل هو أقرب إلى مفهوم تجديد هذا العقل فـ «الحداثة» لديه «مشروع لم يكتمل» كما هو الشعار المشهور عنه في أحد كتبه، ففي نظره كان بدلا من الدعوة للتخلي عن الحداثة أن نعيد مراجعتها وفحصها نقديا، وإظهار سلبياتها وإيجابيتها، لذلك عمد إلى اقتراح العقل التواصلي للحداثة الغربية كبديل فكري عن العقل الأداتي المتمركز حول الذات الغربية.
ويضعنا هابرماس أمام عملية استراتيجية في مسألة التواصل بين الذوات المختلفة حيث تأتي تعددية هابرماس في مفهومه حول الفعل التواصلي من خلال التزامه بقيم الحداثة والتنوير أولا، ثم أخذه بعين الاعتبار التاريخ النقدي للعقل ثانيا. إضافة إلى مطالبته التقاليد التراثية بضرورة انفتاحها على العصر والنقد والمراجعة ثالثا. ثم إغناء الفضاء العمومي أو المجال العام بكافة أشكال وقنوات التواصل الفردية والجماعية رابعا. وفي الأخير عالج ذلك كله في إطار الدولة الدستورية عبر النقاشات الديمقراطية التي تأسست على الصالح العام.
لكن السؤال الأهم هنا ماذا تفيدنا نظرية التواصل داخل المجتمع السعودي؟، برأيي أن الإستراتيجية التي قامت عليها النظرية عند هابرماس تسعفنا قليلا في الكيفية التي يمكن أن يتحدد من خلالها ذلك التواصل. حيث الالتزام بالمكتسبات الاجتماعية والوطنية لهذه الدولة على اعتبار أننا أبناء وطن واحد عشنا كل مراحله وتقلباته وتحولاته التاريخية بحيث يكون هو الركيزة التي يمكن أن نتحلق حولها. إضافة إلى عملية النقد المتواصلة لبعضنا البعض ونقد مشاريعنا الفكرية والمذهبية والوطنية وغيرها. النقد الذي يعني مساءلة كل ذلك مساءلة فكرية واعية دون الخوف من عملية النقد. كما أنه من المهم أن ننفتح على كافة التيارات الفكرية العصرية ونستفيد منها في تطوير أدواتنا الفكرية والاجتماعية، ولعل برنامج الابتعاث هو أحد أشكال ذلك الانفتاح ــ كمثال غير حصري ــ. كما أننا بحاجة إلى نوع من خلق أدوات عديدة للتواصل سواء كان ذلك التواصل من خلال التقنيات الحديثة كمواقع التواصل الالكتروني أو التقنيات التقليدية كالمؤسسات الاجتماعية والثقافة وغيرها حتى يمكن أن نخلق فضاء عموميا. لكن برأيي أن أهم نقطة من نقاط التواصل هو أن تكون الروح الديمقراطية في التواصل حاضرة وحرية التعبير حاضرة من غير أن نخاف من عمليات النقد أو التواصل كما يحصل حاليا فمن غير حرية كاملة في التعبير فإن جميع عمليات التواصل سوف تذهب أدراج الرياح، وتنهدم عملية التواصل من أساسها.


shtiwi7@hotmail.com