التنمية المتوازنة مطلب اقتصادي واجتماعي وإنساني. فالقضية ليست مجرد ماديات، بل حاجات إنسانية تنزل منزلة الضرورة. وقد شهدت مدن المملكة تنمية اختلفت من مدينة لأخرى، بل من محافظة لأخرى داخل المنطقة الواحدة. وهذا الاختلاف وعدم تقديم تنمية متوازنة أثر اجتماعيا على التوزيعات السكانية داخل المدينة الواحدة. فنشأت أحياء باذخة هرولت الأمانات لتلبية احتياجاتها، وفي المقابل أهملت أو تناست أو استنفدت إمكاناتها عندما حان وقت الالتفات لبقية الأجزاء الأخرى من المدن. ويمكن أن نأخذ مدينة جدة مثالا على غياب التنمية المتوازنة.
جدة كأنها مدينتان في مدينة، واحدة في جنوبها، وأخرى في شمالها. الأولى لها تاريخها وحكاياتها وأصالتها، والأخرى تتزين مشغولة عن جارتها في الجنوب. أناس رحلوا إلى الشمال وبقيت ذكرياتهم وحكاياتهم شواهد عصر مجيد. وقد فضلت أمانة جدة أن ترحل لتعيش مع الذين ذهبوا للشمال، أما جنوب المدينة فيبقى ذخرا لزمن الحكايات وذكريات الأجداد.
في حقبة الطفرة الاقتصادية في أوائل الثمانينات تمددت المدينة شمالا، وهو أمر طبيعي لمدينة ساحلية تنشد التوسع، فمدت الطرق في أرجائها الشمالية، وأخذ كورنيشها نصيبه من التطوير والتجميل حتى غدا نموذجا يحتذى وخاصة في المجسمات الجمالية التي آثرت الجانب الجمالي للكورنيش. هذا الأمر يغدو طبيعيا لو أن الأمر ذاته من العناية والتطوير والتحسين طال الجزء الجنوبي من المدينة.
واستئثار الشمال على الجنوب بالخدمات وبناء المرافق ليس مجرد قول للإثارة، بل تدعمه الأرقام والمشاهدات على الأرض. وسأمثل بمثالين يشاهدهما الجميع. الأول مشاريع بناء الأنفاق والجسور، والثاني الحدائق وتطويرها وتنسيقها. وقد اخترت هذين المثالين لإمكانية التأكد من نسبة الاختلاف في المنجز بين شمال جدة وجنوبها.
فبالنسبة للجسور والأنفاق فقد تم توزيعها مراعاة لفك الاختناقات المرورية، وقد نال شمال المدينة النصيب الأكبر منها، وبقي جنوب المدينة يعاني من الاختناقات المرورية. فنفذت أمانة جدة حوالى خمسة عشر جسرا ونفقا في شمال جدة، وسبعة مشاريع أخرى تحت التنفيذ. في المقابل فإن إجمالي ما نفذت أمانة مدينة جدة في الجزء الجنوبي والشرقي من المدينة خمسة مشاريع أنفاق وجسور، ومشروع واحد تحت التنفيذ. هذه المشاريع تظهر عدم مراعاة الكثافة السكانية التي تتطلب توازنا في اعتماد مشروعات المدينة. وهذا لا يعنى الأخذ من نصيب شمال المدينة، بل المقصود تنفيذ ما يحتاجه الجنوب من مشروعات حيوية تيسر انسيابية الحركة المرورية بين شمال المدينة وجنوبها.
والشاهد الثاني تنسيق الحدائق وصيانتها داخل الأحياء. والفرق شاسع بين اهتمامات الأمانة بحدائق الشمال مقارنة باهتمامها بحدائق الجنوب. ولا أعتقد أن عاقلا يجادل في أهمية الحدائق بالنسبة لسكان المناطق الشرقية والجنوبية أسوة بسكان الأحياء الشمالية من المدينة. وعبر المصور الجوي في موقع أمانة جدة على الإنترنت استطعت أن أتبين عدم توازن تنمية الحدائق. فقد حظي شمال جدة بتطوير وتنسيق أكثر من خمسين حديقة في مقابل تطوير وتنسيق ثلاث حدائق في جنوب جدة، وأربع في شرقها. وهي نسبة تدعو للتساؤل، وخاصة أن هناك مساحات مخصصة للحدائق تحولت لمرمى مخلفات المباني والسيارات التالفة. ويمكن للقياس أن يطرد في مشاهد أخرى تنصرف فيها التنمية لشمال جدة على حساب جنوبها.
إن تطوير وتنمية أي مدينة يجب أن يتم التعامل معه على أساس أن المدينة جسد واحد، فأي ضرر يصيب الجزء يؤثر على الأجزاء الأخرى. لكن منطق الجسد الواحد غاب عن أمانة جدة إلى حد كبير. ويبقى السؤال الصعب هو: لماذا هذا السلوك التنموي الغريب في حق مدينة جدة من قبل أمانتها؟!، هل التفاوت الاقتصادي بين سكان الأحياء الجنوبية والشمالية السبب في سوء توزيع تنمية الخدمات وتهيئة المرافق؟!.
المسؤولية التنموية تقتضي قراءة نسبية العلاقة بين أجزاء المدينة الواحدة ليستمد كل جزء قوته من الأجزاء الأخرى في اتصال يشبه الحوار البناء بين الأطراف المختلفة. وطالما أن انقطاع الحوار هو السائد بين أجزاء المدينة، فإن المدينة هنا تشبه الجسد المعلول الذي إن عانى جزء منه فقدت الأعضاء الأخرى حيويتها. لقد كرس هذا السلوك التنموي غير الحضاري ثقافة الفوارق الاجتماعية، والعزلة المعنوية بين سكان شمال جدة وجنوبها.
halnemi@gmail.com
جدة كأنها مدينتان في مدينة، واحدة في جنوبها، وأخرى في شمالها. الأولى لها تاريخها وحكاياتها وأصالتها، والأخرى تتزين مشغولة عن جارتها في الجنوب. أناس رحلوا إلى الشمال وبقيت ذكرياتهم وحكاياتهم شواهد عصر مجيد. وقد فضلت أمانة جدة أن ترحل لتعيش مع الذين ذهبوا للشمال، أما جنوب المدينة فيبقى ذخرا لزمن الحكايات وذكريات الأجداد.
في حقبة الطفرة الاقتصادية في أوائل الثمانينات تمددت المدينة شمالا، وهو أمر طبيعي لمدينة ساحلية تنشد التوسع، فمدت الطرق في أرجائها الشمالية، وأخذ كورنيشها نصيبه من التطوير والتجميل حتى غدا نموذجا يحتذى وخاصة في المجسمات الجمالية التي آثرت الجانب الجمالي للكورنيش. هذا الأمر يغدو طبيعيا لو أن الأمر ذاته من العناية والتطوير والتحسين طال الجزء الجنوبي من المدينة.
واستئثار الشمال على الجنوب بالخدمات وبناء المرافق ليس مجرد قول للإثارة، بل تدعمه الأرقام والمشاهدات على الأرض. وسأمثل بمثالين يشاهدهما الجميع. الأول مشاريع بناء الأنفاق والجسور، والثاني الحدائق وتطويرها وتنسيقها. وقد اخترت هذين المثالين لإمكانية التأكد من نسبة الاختلاف في المنجز بين شمال جدة وجنوبها.
فبالنسبة للجسور والأنفاق فقد تم توزيعها مراعاة لفك الاختناقات المرورية، وقد نال شمال المدينة النصيب الأكبر منها، وبقي جنوب المدينة يعاني من الاختناقات المرورية. فنفذت أمانة جدة حوالى خمسة عشر جسرا ونفقا في شمال جدة، وسبعة مشاريع أخرى تحت التنفيذ. في المقابل فإن إجمالي ما نفذت أمانة مدينة جدة في الجزء الجنوبي والشرقي من المدينة خمسة مشاريع أنفاق وجسور، ومشروع واحد تحت التنفيذ. هذه المشاريع تظهر عدم مراعاة الكثافة السكانية التي تتطلب توازنا في اعتماد مشروعات المدينة. وهذا لا يعنى الأخذ من نصيب شمال المدينة، بل المقصود تنفيذ ما يحتاجه الجنوب من مشروعات حيوية تيسر انسيابية الحركة المرورية بين شمال المدينة وجنوبها.
والشاهد الثاني تنسيق الحدائق وصيانتها داخل الأحياء. والفرق شاسع بين اهتمامات الأمانة بحدائق الشمال مقارنة باهتمامها بحدائق الجنوب. ولا أعتقد أن عاقلا يجادل في أهمية الحدائق بالنسبة لسكان المناطق الشرقية والجنوبية أسوة بسكان الأحياء الشمالية من المدينة. وعبر المصور الجوي في موقع أمانة جدة على الإنترنت استطعت أن أتبين عدم توازن تنمية الحدائق. فقد حظي شمال جدة بتطوير وتنسيق أكثر من خمسين حديقة في مقابل تطوير وتنسيق ثلاث حدائق في جنوب جدة، وأربع في شرقها. وهي نسبة تدعو للتساؤل، وخاصة أن هناك مساحات مخصصة للحدائق تحولت لمرمى مخلفات المباني والسيارات التالفة. ويمكن للقياس أن يطرد في مشاهد أخرى تنصرف فيها التنمية لشمال جدة على حساب جنوبها.
إن تطوير وتنمية أي مدينة يجب أن يتم التعامل معه على أساس أن المدينة جسد واحد، فأي ضرر يصيب الجزء يؤثر على الأجزاء الأخرى. لكن منطق الجسد الواحد غاب عن أمانة جدة إلى حد كبير. ويبقى السؤال الصعب هو: لماذا هذا السلوك التنموي الغريب في حق مدينة جدة من قبل أمانتها؟!، هل التفاوت الاقتصادي بين سكان الأحياء الجنوبية والشمالية السبب في سوء توزيع تنمية الخدمات وتهيئة المرافق؟!.
المسؤولية التنموية تقتضي قراءة نسبية العلاقة بين أجزاء المدينة الواحدة ليستمد كل جزء قوته من الأجزاء الأخرى في اتصال يشبه الحوار البناء بين الأطراف المختلفة. وطالما أن انقطاع الحوار هو السائد بين أجزاء المدينة، فإن المدينة هنا تشبه الجسد المعلول الذي إن عانى جزء منه فقدت الأعضاء الأخرى حيويتها. لقد كرس هذا السلوك التنموي غير الحضاري ثقافة الفوارق الاجتماعية، والعزلة المعنوية بين سكان شمال جدة وجنوبها.
halnemi@gmail.com