-A +A
حسن النعمي
للمدن في العالم عناوينها التي تنقل الناس إلى غاياتهم دون ضياع. وكلما نمت المدن ازدادت العناية بربطها بشبكة محكمة من العناوين والتسميات التي تغني عن السؤال أو البحث عن معلم قريب ليدل أو يقرب المأمول الوصول إليه.
في مجتمعنا، مجتمع ما قبل المدينة أو عندما كان للمدن أسوارها التي تحتضنها، وتشكل هويتها، وتحدد مساراتها، لم تكن قضية تسميات الشوارع تشغل البال. فكان الناس أقرب للأسرة الواحدة، ليس بينهم تائه أو ضال في الطريق. دار الزمان دورته، ونمت المدن بعشوائية مفرطة، نمت كشعر مجعد لم تزره الأمشاط لتسويته وتهذيبه. فضاع ما كان معلوما، وتاه ما كان مرشدا.

القصة تبدأ مع ترقيم الشوارع وتسميتها في مدننا. الهدف من ذلك كان الإرشاد، فإذا بالأمر يتحول إلى عكس ذلك تماما. مشروعات التسمية والترقيم كلفت مبالغ ضخمة، وانتهت دون فائدة تذكر، فمن المسؤول؟!.
البحث عن عنوان وفقا لهذه التسميات والأرقام ضرب من العبث، فلو امتلك أحد الشجاعة، أو دعاه فضوله لمحاولة الاستعانة بهذه الطلاسم فسيكتب له التيه، وكأنه في صحراء لا معالم لها. ولذلك حسم الناس مشكلاتهم مع التسميات، بعد أن عادوا لزمن ما قبل المدينة، حيث استعانوا ومازالوا بالمعالم المشهورة في كل حي، من مساجد، وصيدليات، ومدارس، ومحطات وقود وغيرها ليصلوا إلى عناوين المنازل والمرافق التي يريدون.
تجربة عنونة الشوارع وتسميتها في المملكة استنت نظاما غير واضح، أضاع أكثر مما أرشد، وكلف من الوقت والجهد والمال ما لا يمكن تقديره. السؤال: لماذا، ونحن نأتي في آخر الدول التي اهتمت بالتسمية والعنونة، نفشل في الاسترشاد بتجارب ناجحة أدت دورها وحفظت للناس أوقاتهم وجهدهم وربما أموالهم إذا أخذنا بمعيار أن الوقت له ثمن؟!.
عندما طبقت التسميات على أرض الواقع أصبحت ظاهرة للتندر بدل أن تكون رمزا دالا يغني عن السؤال عن العنوان المقصود الوصول إليه. ولعل أبرز الأخطاء تكمن في عدم اعتماد آلية الاتجاهات الرئيسية في التسمية. كما أن تسمية الشوارع داخل الأحياء تحمل أسماء صعبة أو غريبة، أو طويلة، فلا ينتفع بها. فهل وضعت للتكريم لمجرد التكريم دون الإرشاد؟ وأي تكريم لأسماء غير مشهورة بأدوارها أو منزلتها في التاريخ؟ ولا أعتقد أن الوضع يمكن تصحيحه إلا إذا أدركنا الغاية الفعلية من التسميات وهي إرشاد الناس بسير وسهولة. تسمية الشوارع يجب أن يكون الهدف مهنا أكبر من التكريم، وعليه يجب البحث عن آليات مرنة وفاعلة للتسمية تلبي سهولة الوصول للمنازل والمرافق العامة.
فمثلا الشوارع الرئيسية الممتدة من شمال أي مدينة إلى جنوبها تسمى بأسماء قابلة للتداول، سهلة، وذات مضمون إيجابي. والشوارع المتجهة شرقا وغربا تأخذ أرقاما ولتكن من ألفاظ العقود. أما داخل الأحياء فيعتمد نظام الأرقام للشوارع الداخلية، الزوجية للشوارع ذات الاتجاه شمالا جنوبا، والفردية للشوارع المتجهة من الشرق للغرب. فثملا يصيح العنوان على النحو التالي: (منزل رقم 10، شارع 27، المتفرع من شارع 100 شرقا، حي ...!) هذا التمثيل الرمزي معمول به في كثير من الدول دون اللجوء للمعالم والشواهد التي ينصرف الناس للبحث عنها أولا، فبعد تحديدها والتعرف عليها يبدأ البحث عن عنوان المنزل أو المنشأة.
قضية التسمية ليست قضية استدلال واسترشاد فقط، بل لها جوانب تنموية كبيرة، لها جوانب إنسانية عظيمة، ولها جوانب أمنية مهمة. ففي حالة الإبلاغ عن سرقة أو حريق، فإن العنوان مرتبط بهاتف المتصل الذي لا يحتاج لبيان عنوانه وخاصة عندما يكون في حالة طوارئ. هذا الإجراء سوف يسهم في إنقاذ الأرواح، ويحمي الممتلكات، ويمكن الجهات المعنية من أداء أدوارها بمرونة أكبر لمساعدة الناس وحماية ممتلكاتهم.
التسمية والعنونة الحالية أضرت بالناس بدلا من كونها عونا لهم، استنزفت أوقاتهم وحرمتهم من استخدام عناوين دالة على مساكنهم ومنشآتهم بطريقة عصرية تضمن لهم تحقيق المصالح وتبادل المنافع، وتيسر للجهات المعنية التعامل مع أي طارئ باحترافية ومهنية عالية.. فهل من حقنا، بعد كل ما تقدم، أن نسأل من المستفيد من العنونة الحالية العشوائية التي قد لا يفهمها من خطط لها ووضعها أصلا ؟!!.