ترك
الراحل الباحث والكاتب محمد صلاح الدين الدندراوي (توفي 28/9/1432هـ) بصمات خاصة ومتميزة في كتابة «المقال الصحافي» في القضايا الإسلامية، وكانت زاويته اليومية «الفلك يدور» التي استمرت يوميا لأربعة عقود من أشهر الأعمدة في الصحافة السعودية، حيث بدأها في صحيفة عكاظ، ثم انتقل بها إلى صحيفتي المدينة والبلاد، وكتب فيها عن أحوال العالم في القضايا الإسلامية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفاز بها بجائزة علي وعثمان حافظ عام 1994م.
أراد محمد صلاح الدين إيجاد وكالة تهتم بالقضايا العربية والإسلامية، فأنشأ «وكالة الصحافة الإسلامية»، وقال في حوار مع مجلة الحوادث «الهدف من إنشاء الوكالة ليس طرح بديل لوكالات الأبناء الغربية، وإنما هدفنا أن نوفر للرأي العام العالمي بصفة خاصة، والرأي العام في دول العالم الثالث، وجهة نظر وتحليلا وتقييما للأنباء والأحداث بصورة مستقلة عن الاحتكار الغربي للإعلام العالمي، ومن هنا تبدأ قضايانا ومشاكلنا تأخذ صورتها الحقيقية وحجمها الطبيعي».
وخرج عن وكالة الصحافة الإسلامية مجلة «آرابيا» عام 1979م، ولكنها توقفت فيما بعد عام 1985م للعوائق المالية التي واجهت الوكالة، وكان قد قال بداية تدشينه المجلة في حديث لمجلة الحوادث «نحن في الأساس مجلة عالمية، مثل (التايم) و(النيوزويك) الأمريكيتين و(دير شبيغل) الألمانية، ولكن بتركيز خاص على العالم الإسلامي الذي يشمل بالطبع العالم العربي، وقد بدأت الفكرة عندما لا حظنا غياب مجلة عالمية هويتها عربية إسلامية، فتصدينا لهذه المهمة»، ثم يقول في حوار صحافي «سيطرة الإعلام الغربي ونفوذه أمر واقع، لكن هذا لا يعني أن الغربيين قد أمسكوا بأيدي المسلمين وحالوا دونهم ودون عمل إعلامي جيد، إن المسؤولية تقع علينا كمسلمين بداية ونهاية» (عكاظ: 11/4/1415هــ).
ولد الصحافي والكاتب محمد صلاح الدين في قنا في مصر عام 1934م، وقطن في مكة المكرمة، ثم انتقل بداية المرحلة الابتدائية إلى القاهرة ودرس في صعيد مصر حتى نهاية المرحلة الثانوية، وعاد إلى مكة ليبدأ حياته العملية، وبعد عدة أعوام سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإكمال دراسته الجامعية في البكالوريوس والماجستير. وكان لمحمد صلاح الدين عضوية في عدة جهات، منها: عضو مؤسسة المدينة الصحفية، وعضو مجلس إدارتها لمدة خمسة أعوام، وعضو مجلس الإدارة المنتدب للشركة السعودية للملاحة والخدمات البحرية، وعضو مجلس الإدارة المنتدب والمشرف على تحرير مجلة الطيران العربي، ورئيس شركة تقنية المعلومات والتوثيق المحدودة.
ومع تميز محمد صلاح الدين وتنوعه في عموده «الفلك يدور»، إلا أنه يؤكد على الدوام عدم رضاه عما يكتبه، وربما يعود ذلك لزحمة الأعباء التي تجعله لا يعطي المزيد من الوقت للكتابة، ويقول حول ذلك «الكاتب في الصحافة الحديثة يعتمد في العادة على جهاز كبير من الباحثين، وحشد من مراكز المعلومات، وكم من الاتصالات، وتفرغ تام للعمل الفكري، لكننا في العالم العربي نعطي ذلك فضول أوقاتنا، ونبخس قدر العمل الأدبي والفكري وأثره وقيمته». (المدينة: 1409هـ/ 1988م).
وعندما يكتب تاريخ الصحافة السعودية، فإن الراحل محمد صلاح الدين يبرز كرائد وأستاذ لجيل من الرواد، وصانع للصحافة الحديثة والنشر الصحافي، حيث انطلقت رحلته مع الصحافة من صحيفة الندوة سكرتيرا للتحرير (1959 ــ 1963م)، وبعدها مديرا لإدارة المكتبات في وزارة الحج والأوقاف لمدة عام واحد فقط، ليعود إلى عشقه الصحفي مديرا لتحرير صحيفة المدينة (1964 ــ 1973م)، وعمل مشرفا على تحرير مجلة «أهلا وسهلا» الصادرة عن الخطوط الجوية العربية السعودية، ورئيسا لتحرير مجلتي «سعودي ريفيو» و«الأسواق السعودية»، كما أصدر عدة مطبوعات باللغتين العربية الانجليزية، منها: «آرابيا»، العالم الإسلامي، الأموال، صحتك اليوم، مشارف، والطيران العربي. (صدرت عن وكالتي الصحافة الإسلامية ومكة للإعلان).
وفي الوقت الذي امتهن محمد صلاح الدين الصحافة المكتوبة والكتابة فيها، إلا أنه اتجه في دراسته الجامعية إلى «العلوم السياسية» في الولايات المتحدة الأمريكية، «ذهبت إلى جامعة ميتشجن في الولايات المتحدة الأمريكية لأدرس صحافة، فلما اجتمعت برئيس قسم الصحافة سألني عن عملي وخبرتي السابقة، وعندما عرف بأنني عملت في الصحافة لفترة من الزمن نصحني بعدم الالتحاق بقسم الصحافة، وإنما الالتحاق بعلم آخر يساعدني في عملي الصحفي، حيث سألني عن طبيعة عملي الصحفي بالتحديد فأخبرته بأنني أعلق على الأحداث، فقال لي: تخصص في العلوم السياسية، وكانت نصيحته من خير النصائح وفي موقعها، واستمتعت كثيرا بدراسة العلوم السياسية واستفدت منها في عملي». (اليمامة: 1421هـ).
رغب عن التدريس في الجامعة في تخصص العلوم السياسية، لأنه كما يقول «درست للتعليم وليس للوظيفة، وهذا التخصص أفادني كثيرا في علمي الصحفي، فعندما يكون الطبيب محررا طبيا، وخريج الاقتصاد محررا اقتصاديا، ودارس الزراعة محررا زراعيا، تجده يبدع في مجاله لأنه صاحب اختصاص». (اليمامة: 1421هـ).
وفي مجال النشر الصحفي؛ فإن محمد صلاح الدين يعد من الأوائل في هذا المجال، حيث أسس أول دار سعودية للنشر (الدار السعودية للنشر والتوزيع)، وأول وكالة إعلان في جدة (وكالة مكة للإعلان)، ليؤسس بعدها وكالة مروة للإعلان.
ذلك النجاح الذي حققه محمد صلاح الدين في مجال النشر، إلا أنه تمنى عدم دخول هذه التجربة باعتبارها مكلفة «عندما تدخل في العمق، وترى مدى التضحيات والخسارة، تدرك أن القضية هي رسالة أكثر منها مادة، لكنها عمل صعب بالغ الصعوبة، خصوصا من الناحية المادية رغم تميز المطبوعات التي نصدرها وانفرادها في السوق، وإن كان الوعي الاجتماعي لدى الأوساط الاقتصادية لم يكن بالصورة المأمولة، لكنه يظل طريقا صعبا ومكلفا ومخاطره كبيرة» (اليمامة: 1421هـ).
قلما تجد رئيسا للتحرير إلا ويكن تقديرا واحتراما لـ «حريف الصحافة السعودية» محمد صلاح الدين، ذلك الصحافي والكاتب والأديب الذي تخرج على يديه شبان أصبحوا فيما بعد رؤساء لتحرير العديد من المطبوعات اللامعة. فقد عرف الراحل بأنه «مدرسة رؤساء التحرير»، و«الرجل الذي يعرف كل شيء ولا يتحدث في أي شيء».
ويجمع محمد صلاح الدين بين أستاذية الصحافة واحترافيتها، وبين تلك الأوصاف التي أطلقت عليه، مثل: خفيض الصوت، قويم الخلق، رشيق الحرف والقلم، صادق الكلمة، سلس الفكر، عميق الأدب، مغامر مدهش، طموح بعزيمة، مجامل بلا مداهنة، خالي الشوائب، منفتح على الثقافات الأخرى، مدافع عن حياض الدين.
وبذلك جمع المتشابهات والمتباينات، سواء في كتابته الصحافية أو في مآثره؛ منها أنه صاحب أصول الحوار والنقاش، والفكر الإسلامي الرزين، والأدب العربي الرصين، والكتابة السياسية والاجتماعية والسياسية المحنكة، والعلوم الاجتماعية والإنسانية، وأصول الحوار والنقاش، وفوق ذلك كان ذا جبلة هادئة ورضا وسكينة لا يجادل أحدا، ولما داهمه المرض كان في غيبوبة لا يتكلم، ولذا فإنه عاش هادئا ومات صامتا.