قليلون هم من يستطيعون النظر للماضي بشكل حداثي. قد تكون هذه الجملة فيها من المفارقات الشيء الكثير . كيف يمكن النظر إلى الماضي برؤية حداثية؟.
الماضي جزء من الذات البشرية لا يمكن التغافل عنه مهما حاولنا إنما يمكن النظر إليه من زاوية ما يمكن أن يحققه لنا من هوية ذاتية تقودنا إلى التصالح مع العصر ولو بشكل أدبي من خلال التغيير في آليات قراءة هذا التراث وتأويله تأويلا جديدا.
سليمان الفليح .. هذا القادم من شمال القلب، هذا البدوي الذي كتب القصيدة الحداثية بروحه البدوية كان أكثر حداثية ممن ادعوا الحداثة في يوم ما. كان اعتزازه بالبداوة وأغنيات الرعيان قنطرته التي غنى بشعره من خلالها، فمزج بين الرؤية الشكل والمضمون، بين الأصالة والحداثة الشعرية. بين بدويته المفعمة بالحنين إلى ذلك الصبي الذي يركض خلف شياهه وبين الرجل الذي يعيش في مدن الاسمنت وناطحات السحاب.
كان هو الولد البدوي الذي غنى : «أيها الولد البدوي / إئتنا بالربابة/ وغن لنا (ياطويل البقا) ما ينحي الكآبة : راكب فوق حر يذعره ظله .. مثل طير كفخ من كف قضابه / ماحلى فزته والخرج زاه له .. والمبارك على متنه تثنى به/ وتأن قليلا بلحنك ــ إن السماء ملبدة باللواغيد ــ قبل انسيابه/ وكذاك الصحاري مملؤة بالعقارب/ والليل يرخي حجابه/ ونحن سنسهر حتى الصباح / نعيد حديث الصعاليك ، نأرق / أن نام كل خلي وأوصد بابه / نقتسم تمرتنا / ونقاسم كل شقي بهذا الزمان عذابه / ونختط ما اختط بالسيف أسلافنا بالكتابة »..
كان سليمان الفليح يرى نفسه في كل بدوي يعاني في هذه الحياة. يقول : «نعاني التشرد والفقر لا بأس / فالدهر إن كان صلبا فليس علاج الصلابة إلا الصلابة / وسيف يطيل الإقامة في الغمد يؤتى الصدأ في جرابه / وموت الحياة حياة الجبان/ وموت الممات حياة الشجاع/ فأي ممات نشابه ؟! »..
رحل هذا البدوي قبل يومين محملا بكل أغنيات البدو وأحلام الشمال، محملا بكل طموحات ألباب الذين كان الوطن العربي لهم مركبا يأخذهم بكل أمجاده أو خيباته إلى حدود الشمس. فرحم الله أبا سامي .. وعزاؤنا لأهله وأبنائه وللشماليين عامة.