يرى بعض الباحثين المسلمين المعاصرين المنشغلين بالدراسات الحضارية أن نظرية الحضارة عند مالك بن نبي جاءت وذكرت بنظرية ابن خلدون في الحضارة والعمران الإنساني، ومثلت امتدادا وإحياء أو تجديدا لها، وتعد هذه النظرية البنابية (نسبة إلى ابن نبي)، من أهم النظريات في المجال العربي الحديث والمعاصر التي نهضت بهذا الدور، ومثلت حلقة من حلقات التواصل مع نظرية ابن خلدون.
والمجال العربي المعاصر كان بحاجة فعلية إلى نظرية، مثل نظرية ابن نبي، تفتح له من جديد جسور التواصل مع نظرية ابن خلدون، وذلك لأهمية وقيمة هذه النظرية التي طالما أثارت دهشة وإعجاب الأوروبيين المعاصرين مفكرين ومؤرخين، وكشفت لهم عن عقل مبدع، يتسم بسعة النظر، وقوة التفكير، وفتحت أفقا في حقل الدراسات الحضارية والاجتماعية والتاريخية، ويكفي الإشارة هنا إلى ما ذكره المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي الذي اعتبر أن ابن خلدون قد وضع فلسفة للتاريخ، هي بلا مجاملة أعظم عمل أبدعه عقل في أي زمان ومكان.
والذين تعرفوا على نظرية ابن نبي في الحضارة لم يختلفوا عليها من جهة علاقتها بابن خلدون ونظريته في الحضارة والعمران الإنساني، وذلك لوضوح هذه العلاقة وظهورها من جهة، والرغبة في توطيدها وتأكيدها من جهة أخرى.
وبحكم هذه العلاقة، هناك من اعتبر مثل الباحث الجزائري الدكتور عمار الطالبي أن ابن نبي هو ابن خلدون العصر، إلى جانب من اعتبر مثل الدكتور فهمي جدعان في كتابه (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث)، أن ابن خلدون هو الأستاذ الأول لابن نبي وملهمه الأكبر، وهكذا من اعتبر مثل الباحث الجزائري الدكتور صالح مشوش في كتابه (علم العمران الخلدوني وأثر الرؤية التوحيدية في صياغته)، أن ابن نبي يمثل الامتداد الطبيعي للفكر العمراني عند ابن خلدون، لكن بشروط مختلفة عن التي عاشها ابن خلدون.
وبهذا تكون نظرية ابن نبي قد فتحت أمام الفكر العربي والإسلامي المعاصر أفقا حضاريا مهما، أفقا يتخذ من الحضارة والتقدم الحضاري وجهة له، ومن مشكلات الحضارة وشروط النهضة أساسا لحركة الأمة، ومن قضايا الإنسان والثقافة والمجتمع مجالا للدراسة والبحث الفكري والاجتماعي، سعيا وتطلعا نحو توجيه مسارات الأمة على طريق بناء الحضارة من جديد.
والفكر العربي والإسلامي المعاصر كان بأمس الحاجة إلى الاقتراب من هذا الأفق الحضاري، والبقاء في مداره، والتواصل الدائم والمستمر معه، حتى يخرج ويتخلص من الأفق الضيق الذي بقي منحبسا فيه، بسبب وضعيات التراجع والجمود التي حدت وتحد عادة من درجة الأفق وتضيقه، بل تفرضه فرضا، وتجعل من الصعوبة كسره والخروج عليه.
فالتخلف له أفقه المفروض فرضا، والتحضر له أفقه أيضا المفروض فرضا، بمعنى أن التخلف متى ما أصاب الأمة فإنه يفرض عليها أفقه الضيق، والتحضر متى ما أصاب الأمة فإنه كذلك يفرض عليها أفقه الواسع، وأفق التخلف يضيق بالأمة ويصيبها في فكرها وروحها وحركتها، وهذا بخلاف أفق التحضر الذي يجعل الأمة في سعة من أمرها وفكرها وحالها.
وما لم يقترب الفكر العربي والإسلامي من الأفق الحضاري، ويبقى في مداره، لن يتغير حال الأمة وحاضرها، ولن تتمكن من تجاوز محنتها، والتخلص من المشكلات والأزمات التي تكالبت عليها، وحولت واقعها إلى واقع مر أصاب ويصيب بالاكتئاب والإحباط.
almilad@almilad.org