-A +A
غازي عبداللطيف جمجوم
في صبيحة يوم الحج الأكبر وجموع الحجيج مجتمعة في المشعر العظيم ــ عرفة. أتطلع باندهاش إلى هذه البوتقة الفريدة التي يختلط فيها الكل بالكل ويذوب فيها الكل في الكل. أتعجب من الفرق بين هذا المشهد المشرق وبين أحداث العام الماضي الحزينة التي تهدد بأن تستمر معنا وتطحننا عاما بعد عام. أتساءل: كيف تجمع هذه البوتقة بين الأشقاء المصريين الذين وقفوا بالأمس ولا يزالون ضد بعضهم البعض في ميادين القاهرة وشوارع الاسكندرية وصحراء سيناء؟ كيف تجمع بين الأخوة السوريين الذين أحرقوا إخوتهم وجيرانهم بالأسلحة الكيمائية وهدموا ديارهم ورموهم بكافة أنواع القنابل الفتاكة؟ كيف تجمع بين أبناء العراق الذين يفجر بعضهم بعضا يوميا بالسيارات المفخخة والمتفجرات؟ بين أبناء الشعب الليبي الذين خاضوا حربا ضروسا ليتخلصوا من الطاغية الذي سامهم سوء العذاب فإذا بهم يجدون أنفسهم متحاربين وغير قادرين على إكمال مشوار بناء وطنهم الجديد المتحد. بين أبناء الطوائف المتنازعة في لبنان. بين الإخوة المتقاتلين في أفغانستان والصومال. بين الفريقين الكبيرين في العالم الإسلامي السنة والشيعة اللذين يعيشان سويا منذ مئات السنين ويحجان مع بعضهما في كل عام ومع ذلك يسهل إشعال الفتن والخلافات بينهما في كل بلد ولأتفه الأسباب. أستعجب من الجموع الغفيرة التي تقف في صفوف متناسقة متآلفة متجهة نحو قبلة واحدة ثم لا يجد بعضهم أدنى حرج في حمل السلاح ضد الآخر بينما يجد كافة الصعوبات في الجلوس معه للتفاهم والتصالح وإعادة أواصر القربى والمحبة. الحج رسالة إلهية خالدة عبر العصور والأزمنة للمسلمين بالالتقاء بل هو أمر رباني دائم لهم بالاجتماع والوحدة لا يكمل إسلامهم إلا به. ولذا فإن التناقض كبير بين منظر المسلمين وسلوكهم في هذا الجمع المشرق في أيام الحج الزاهية وبين ما يجري بينهم من حروب ونزاعات في شتى الدول الإسلامية. يفرض الحج على كافة المسلمين بالتأكيد مبدأ الوحدة. ولكن ليس هذا فحسب بل يفرض عليهم أيضا مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، بين غنيهم وفقيرهم، أسودهم وأبيضهم، قويهم وضعيفهم، شريفهم ووضيعهم، نسائهم ورجالهم. ولو تحقق مبدأ المساواة لسهل تحقيق الوحدة. أنظرُ إلى جمع الحجيج وهو يجمع بين الرجال والنساء في خليط واحد يتساوى فيه الجميع دون أي تمييز. أستعجب ممن يسيئون إلى النساء ويحاولون التضييق عليهن وسلبهن حقوقهن مثلا في التعليم والعمل. أقول لهؤلاء: ألا ترون كيف يتحرك هؤلاء الحاجات بينكم في أطهر البقاع على الأرض بكل حرية وكرامة واحترام متساوين في الحقوق والواجبات؟ الصورة المشرقة التي يظهر عليها المسلمون في الحج تجعلني أستعيد الصور المؤلمة التي يبثها التلفاز كل ساعة عن كثير من البلاد الإسلامية حيث يكثر الفتك والدمار. أتمنى أن يضع المخرج صور الحجاج من نفس تلك البلاد وهم يقفون جنبا إلى جنب لكي يظهر الفرق بين هذا المشهد وذاك. كيف يكون هنا المحبة والاحترام وهناك الإساءة وانتهاك الحقوق. ألقى نظرة إلى الحشود التي تغطي جبل الرحمة وتحيط به. يطرق سمعي بقوة صدى الكلمات الخالدات التي حرم فيها نبي الهدى عليه الصلاة والسلام سفك دم المسلم واستباحة ماله وعرضه واستوصى بالنساء بصفة خاصة، قائلا: ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد. أستعجب ممن يستبيحون دماء الأبرياء دون أن يتحرك لهم وجدان أو يرف لهم طرف. أين هؤلاء من الإسلام؟ أين هم من مشهد هذا الحج العظيم؟ أيها المسلمون المجتمعون في المشاعر الطاهرة وكل من يراهم من أهلهم وأبناء أوطانهم: أفيقوا إلى حقيقة وحدتكم. انظروا إلى يمينكم وشمالكم وحولكم. تعلموا الدرس الذي جئتم إلى هنا لتلقيه. اعملوا بما يجعلكم مستحقين للقب «الحاج» الذي سعيتم للفوز به. تقبل الله حجكم وغفر لنا ولكم. وأفاء على بلاد الإسلام المحبة والسلام. وملأ أعيادنا بالسعادة والوئام. وكل عام وأنتم بخير.