-A +A
غازي عبداللطيف جمجوم
النجاح الفائـق والمشهود له لحج هذا العام (1434هـ) يرجع بنسبة كبيرة إلى تخفيض العدد الإجمالي للحجاج بنسبة حوالى 37% عن العام الماضي (20% أقل من حجاج الخارج و 50% من حجاج الداخل) بحيث بلـغ عدد حجاج هذا العام 1.9 مليون حاج (1.38 مليون من الخارج و 600 ألف من الداخل) مقابل أكثر من ثلاثـة ملايين حاج للعام الماضي. هذا التخفيض أملته الضرورة الناتجة عن البدء في مشروع توسعة الملك عبد الله بن عبد العزيز العملاقة للمسجد الحرام. كان للجدية في تطبيق إلزامية الحصول على تصريح الحج أكبر الأثـر في نجاح تنظيم عدد الحجاج. في الأعوام السابقة كانت أغلب الزيـادة بسبب حجاج الداخل الذين يكررون الحج وخاصة ممن لا تتوفر لديهم الإمكانيات اللازمة مما يجبرهم على الافتراش في المسارات وعرقلة سير الحجاج بين المناسك والإسهام في تردي النظافة. بل إن الموضوع أكبر من هذا فقد كان الازدحام الشديد يعرض أرواح الحجاج للخطر عند التدافع لرمي الجمرات أو الطواف أو نتيجة ازدحام الأنفاق وتجاوز إجراءات السلامة في المخيمات.
وقد شهدت بعض السنوات الماضية أحداثا مؤسفة إلى أن اكتملت مشاريـع الخيام المقاومة للحريق وجسر الجمرات ثم الحركة الترددية وقطار المشاعر اللتان وفرتا الكثير من المساحات التي كانت تحتلها الحافلات. الواقع أن مساحة المشاعر المقدسة والمسجد الحرام تبقى محدودة رغم كل هذه الجهود بحيث إنه يجب التسليم بأن لا مفر من فرض قيود مناسبة على أعداد الحجاج. بالطبع الجمـيع يتمنى أن تتاح الفرصة لكل راغب في الحج وقادر عليه ، ولكن للضرورة أحكام ، ولذا تأخذ المحافظة على سلامة الحجاج وراحتهـم الأولوية القصوى.

ينتج عن ذلك أنه ينبغي على الجمـيع الالتزام بالتنظيم الذي تفرضه هذه الضرورة وذلك بإعطاء الفرصة لغيرهم ممن لم يحجوا في السابق. الدرس الذي يمكن أن نستفيده من حج هذا العام هو ضرورة الاهتمام بالأعداد ، أقصد أعداد البشر مقارنة بسعة الأماكن وحجم الموارد إلى أن يتم الوصول إلى التوازن المحبذ بين هذه الأطراف الثلاثة. ينطبق هذا ليس على شعيرة الحج فقط ولكن أيضا على أمور كثيرة مهمة أخرى في حياتنا. لنأخذ مثلا أحد أكبر الأمور التي تهـم البشرية وهو الطاقة الاستيعابية لكوكب الأرض من الناس وكيفية توزيعهـم على الدول المختلفـة ونوعية الحياة التي يعيشونها. لقد وصل عدد سكان الأرض حتى اليوم إلى 18و7 مليار نسمة وقد كان (3) مليارات فقط في عام 1960م، وهو تاريخ يذكره الكثيرون منا، وسيصل إلى (8) مليار في عام 2024م أي بعد حوالى عشرة أعوام فقط. وحاليا يزداد سكان الأرض بمعدل 80 مليون نسمة سنويا ، رغم أن معدل زيادتهـم انخفض عن السابق ، وهو حاليا 14و1% بينما يتطلب أن ينخفض إلى الصفر لكي يبقى العدد ثابتا على ما هو عليه.
كم سيكون العدد في نهاية القرن الحالي؟ توقعات منظمة الأمم المتحدة تشير إلى أن العدد سيستـقـر بعد عام 2062م عند 10 مليار نسمة، بينما يتكهن علماء آخرون أن العدد قد يصل إلى 15 مليار أو أكثر. هل ستـتمكن الأرض من استيعاب كل هؤلاء البشر بسهولة؟ هل ستوفر لهم احتياجاتهـم من الغذاء والماء والهواء النظيف والمسكن اللائق مع مستوى كريـم من الحياة؟ لا شك أن الإجابة تختلف من دولة إلى أخرى . كـثير من الدول المتقدمة تمكن من وقف الزيادة السكانية تماما. بل إن بعض الدول مثل اليابان وألمانيا وإيطاليا وروسيا بدأت تنخفض أعداد سكانها. والبعض الآخر ، مثل السويد وفرنسا عاد لتشجـيع النسل لتحقيق التوازن. وقد ساعد التحكم في الزيـادة السكانية أغلب الدول المتقدمة على رفع مستوى المعيشة إضافة إلى الحفاظ على الموارد والبيئة .
وساعد نجاح الصين في كبح الزيادة السكانية على جعلها ثاني أكبر قوة صناعية في العالم. الدول الفقيرة ، في المقابل، تستمر فيها الزيادة السكانية بمعدلات عالية مؤدية إلى تدهور الاقتصاد وزيادة البطالة وتردي الأحوال المعيشية ، بل، أحيانا ، إلى نشوب الصراعات الداخلية. للأسف كثير من الدول الإسلامية تقـع ضمن أفقـر دول الأرض ، والكثير منها يعاني من الانقسام والقلاقل. حتى أن بعض المحللين يعزو الاضطرابات المستمرة في دول الربـيع العربي إلى فشل الإجراءات الاقتصادية وتدهور المعيشة أكثر من الخلافات الحزبية والسياسية.. هل يستفيد العالم الإسلامي من درس الأعداد الذي قاد بتوفيق الله إلى النجاح الباهر في تنظيم حج هذا العام وذلك بالإسراع في كبح الزيادة السكانية وحسن توزيـع واستغلال الموارد لتحقيق حـياة كريـمة لمواطنيه ؟ .. نأمـل ذلك.