-A +A
حسن النعمي
العمـل الثقافي عمل شاق لأنه ذو طبيعة خاصة سواء في ما يقدمه أو فيما يقيمه من علاقات مع المثـقـفـين. ففي الحالة الأولى يختصـم المثـقـفـون حول ما يريـدون، مرة ينشدون التنويـع في البرامج، وعندها ينصرف الجمهـور عن النادي بحجة أن ما يقدمه النادي لا يـروق لهـم على الدوام، ومـرة ينشدون التخصص في البرامج الثقافية، وعندها لن تعدم التهمة بأن النادي نخبوي ولا يمثـل إلا شريحة معينة.
وعلى أي كيفية قلبت العمـل الثقافي فلن تجد فيه إلا مسالك صعبة. عملت في النادي سنوات، سرتني أشياء وأقلقتني أشياء أخرى. أما ما سرني فهـو لي، أما ما أقلقني فأرى أن من حق المثـقـفـين علي وقد فضيت عشر سنوات في العمل الثقافي أن أقولها، إن لم يكن فيها فائدة، فعلى الأقـل يمكن القياس عليها هل زالت أم ظلت على حالها ؟!

مما أقلقني ولـع المثـقـفـين بالظهـور الدائـم بصورة من يقول لا من يستـمع. فكل لديه ما يقوله، وليس هناك أمـل أن ينصت بعضهـم قليلا . فعندما يعتلي أحدهم المنبر معلقا على محاضر يقول ما يريد هو، يتحدث في الغالب بعيدا عن المحاضرة وما أثـارتـه. فقد حضـر ليسمـع الحاضريـن لا أن يتحاور حول المحاضرة.
ما أقلقني احتشاد الجمهـور بكثافة إن كانت محاضرة ذات طبيعة إشكالية، أو كان المحاضر ذا طبيعة جدلية. الجـمـهـور في هذه الحالة لم يأت للنادي، بل جاء للمحاضر أو للمحاضرة، جاء بغرض الوقوف على مشكلة متوقعة، ولم يأت لتحصيل معرفة أو اكتساب قيمة معرفية، وفي هذه الحالة قد تمضي أشهـر قبل أن يـزور النادي مرة أخرى.
ما أقلقني أن بعض الإخوة من التيار الديني لا يتورعون عن اقتحام النادي وهو مؤسسة رسمية للمناصحة حينا، والمناكفة أحيانا أخرى وكأنهـم يحملون الحقيقة المطلقة، وعندما يطلب النادي منهـم أن يحضروا ويحكموا بأنفسهم، فالأمر على حالتين إما أن يحضورا ليقولوا كلاما جاهـزا فيه الزجـر دون الحوار، وفيه الوصاية دون المشورة ولا علاقة له بالمحاضرة التي حضورا من أجلها، أو أنهـم يغيبون ليحضروا في مناسبة أخرى للمناصحة ليس إلا.
ما أقلقني أن هاتفي لم يسلم من التطفـل ممن يرون أنفسهـم رعاة للفضيلة، مقـترحين أسماء يتوجب على النادي استضافتها مـع أنه لا علاقة لها بالعمل الثقافي، وفي حالات أخـرى يطلبـون ويلحـون في الطلب لإلغاء استضافة أحد الكتاب أو الشعـراء لاختـلافـهـم معه، وكأن النادي ليس أهـلا لتـقـيـيـم من يستـضـيف ضمن برنامجه السنوي.
ما أقلقني تدخـل جـهات أخرى في عمل النادي بالمراقبة والمتابعة، وكأن لا مرجعية للنادي. وهذا بـدوره أضعـف دور النادي وزاد من صعوبة العمـل الثقافي. أذكر أن النادي نظـم محاضرة عن السينما، وقبل إلقاء المحاضرة اتصلت إحدى الصحف بالمحاضر لتسأله عن المحاضرة، فذكر أنه سيعرض ضمن المحاضرة فيلما قصيرا لمخرج إيـراني كمثال على سينما الأفلام القصيرة. يومها زار النادي أحد المسؤولين وتبادلنا الحديث معه بهذا الخصوص، وعندما عـرف طبيعة المحاضرة قدر الموقف. فالفيلم مجرد مثال لتطـور صناعة السينما وليس لأي شيء آخر، ومن مجمل حديثي معه ذكرت له أن النادي مؤسسة عامة مشرعة الأبـواب لا يمكن أن تمـنع أحدا من دخوله، لكن النادي أيضا لا يملك الحق أن يدعو أي شخصية دبولوماسية دون علـم وإذن مرجعه بذلك.
مما أقلقني إلغاء بعض المحاضرات دون إرادة النادي، وهذا مربك، ومحرج للضـيف وللنادي وللجمهـور، ونشعر معه بعبث ما نعمل، إذ الموقف ليس دائما وفق ما نخطـط. فمازلت أذكر ظروف إلغاء محاضرة (المثقـف والسلطـة .. أحمد بن حنبـل والمعتـزلة نموذجا)، وما استدعته من اتصالات وصلت لحد إلغاء المحاضرة.
ما أقلقني مستوى الإنفاق المالي المتدني على الأندية الأدبية مقارنة بالأندية الرياضية، وهي في جوهرها تحمـل رسالة واحدة وهي الاهتمام بالمواطن فكرا وسلوكا. فكيف يختلف الإنفاق على المرفـقـين؟! ومن غير شك فإن التمويـل المحدود يشكل عائقا أمام الأندية في تطويـر العمل الثقافي إذ عليهـم أن يتكيفوا مع واقـع الحال المالي.
ما أقلقني كسل الإعلام وبحثه عن مادة جاهـزة للنشر دون أن يصنع موقفه، ويقدم رؤيته لما يقدم. إعلام إن لـم تـلاحقه لن يحضر، وإن حضر أفسد أحيانا، وإن أفسد أساء، وإن أساء بنى الجمهـور موقفه دون أن يكلف نفسه التواصل مع النادي لسماع وجهة النظر الأخرى على الأقـل..
ما أسرده هنا هو للتفكر في شأن العمل الثقافي في بلادنا، وهو عمل شاق محفوف بالمخاطر، فبقدر ما يـبـهـج، فقد يوجد ما ينغص لذيـذ النجاح ليخرجه عن طبيعته الثقافية.