لن أتحدث عن الأستاذ العالم الجليل الدكتور عوض القوزي حديثا علميا أو أكاديميا يليق بمكانته الكبيرة في ميدان العربية وعلومها ولن أقرأ كتبه وأبحاثه المتعددة والمتنوعة قراءة نقدية تحليلية ولكني سوف أشرع الأبواب للمشاعر الإنسانية والأحاسيس العاطفية التي تستظل بظل الذكريات الجميلة والأيام العذبة التي جمعتنا طلابا في بلد الضباب نشدو المعرفة ونرنو إلى شمس الحقيقة وسماء المعرفة بقلوب صافية وعزائم قوية لا يثنيها عن هدفها السامي شيء على الإطلاق قبل ثلاثين سنة ونيف، وبالتحديد عام 1400هـ، كنت طالبا في الدراسات العليا بجامعة اكستر في الجنوب الغربي من بريطانيا تلك المدينة الجميلة الوادعة التي اتخذ منها المتقاعدون متكأ لهم لجمال طبيعتها ولكونها قريبة من سواحل بريطانيا الرائعة. في هذه السنة زار الملك خالد بن عبدالعزيز (رحمه الله) بريطانيا زيارة رسمية وكان السفير السعودي في ذلك الوقت الأستاذ ناصر المنقور (رحمه الله) والملحق الثقافي الأستاذ عبدالعزيز التركي (رحمه الله) ورشح عشرة من الطلاب لمقابلة الملك والسلام عليه وكنت أحد هؤلاء العشرة فركبت القطار إلى لندن متوشحا قصيدة لم يسعفني الحظ في إلقائها في ذلك الوقت تآكلت مع الأيام ولم يبق عالقا في ذهني منها إلا بعض الأبيات.
ابن الجزيرة لا يلين إهابي ... في أي أرض تستقر ركابي
اجتمعنا في لندن في جلسة عرفت فيها صاحب الابتسامة الرقيقة والوجه الطلق عنوان الشهامة والمروءة الأستاذ الدكتور مرزوق بن تنباك الذي أدار الجلسة وقاد مركبة صندوق الطلاب السعوديين في ذلك الوقت ويحضرني من أولئك الصحب الدكاترة أحمد الزيلعي وأسامة جستنية، فواز الدهاس، عبدالرحمن المطرودي (رحمه الله)، فضل عمار، عبدالرزاق سلطان، محمد نصيف، عاصم حمدان، حسين الذواد، هاني مهني وغيرهم من الزملاء، وفي هذا اللقاء رأيت الدكتور عوض مشرق الطلعة هادئ الطبع يبدو عليه سمت العلماء وتواضع الفضلاء وتطارحنا بعض قضايا اللغة والأدب ومن تلك اللحظة انطوت عليه أجنحة القلب ووفاء الصداقة وتعددت الزيارات فكنت أزوره في أكسفورد لعدة أيام وكان يأتيني في أكستر فيقضي عندي أياما ممتعة وبعد أن أنشأنا صندوق الطلاب السعوديين بموافقة من معالي وزير التعليم العالي في ذلك الوقت الشيخ حسن آل الشيخ (رحمه الله) أسند إلينا أنا والدكتور عوض القوزي (رحمه الله) تحرير مجلة الطالب وكم كنا نعاني في إخراج الأعداد ووجدنا عنتا ومشقة في الحصول على مطبعة عربية وكنا نقضي الأيام والليالي في لندن بعيدين عن أهلنا ومقر دراستنا إلى أن ننجز العدد وخلال هذه المدة مرت بنا أحداث وحكايات ومغامرات، لعلي أرجئها إلى وقت آخر وعدنا نحمل شهادة الدكتوراة في وقت متقارب فقد ناقش أطروحته قبلي بعدة شهور ثم أصبح أستاذا للنحو واللغة في جامعة الملك سعود وعدت أستاذا للنقد والأدب في جامعة الملك عبدالعزيز. واستمر التواصل الأخوي والعلمي فقد أخرج كتابه (المصطلح النحوي) في وقت كنت أكتب فيه بحثا عن أثر البيئة في المصطلح النقدي عام 1312هـ تقريبا ضمنته كتابي (النقد بين المسافة والرؤية) وأفدت من بعض آرائه ومراجعه العلمية وبعد ذلك تواصلت العلاقة العلمية والإنسانية فأتحفني بكتاب (التعليقة) الذي بذل فيه جهدا علميا وقضى جل وقته في متابعة ورصد فصوله وأبوابه ويقول لي ممازحا (لقد علقني كتاب التعليقة) ثم توالت مؤلفاته وأبحاثه ونشاطاته العلمية والبحثية في المجامع اللغوية والمراكز العلمية. وأبو محمد يمتلك صوتا عذبا في قراءة القرآن وإنشاد الشعر العربي الفصيح والشعبي وفي بعض لقاءاتنا في لندن أطلب منه الغناء فيشدو بصوته الجميل القصيدة المعروفة:
تعلق قلبي طفلة عربية ... تنعم بالديباج والحل والحلل
رحم الله أبا محمد فقد فقدته الأمة العربية والوطن الأم عالما وباحثا وأستاذا جامعيا وأخا ورفيق درب، يقول شوقي:
إن الديار تريق ماء شؤونها ... كالأمهات وتندب الأبناء
ثكل النساء من البنين وإنما ... ثكل الديار بفقدها العلماء
عضو مجلس الشورى أستاذ النقد والأدب بجامعة الملك عبدالعزيز