الحديث مع خدام يكاد يفتقد للنهاية أو البداية، ففي كل جملة تجد فيها حاجة للمزيد من تاريخ سوريا السري، وكذلك، تتلهف للانتقال إلى محور أكثر أهمية.. ولكن استثمرنا وقت الحوار في كل الاتجاهات.. السياسية والتاريخية.. ولم يبق خدام على أية جانب من حياة الأسد الأب السياسية إلا وتطرق له.
وأكد خدام، أن إصرار الأسد على فكرة التوريث من أخيه رفعت، إلى ابنه باسل ومن ثم بشار، كان بداية سقوط حكم الأسد في سوريا، فكيف لك أن تحول هذه الدولة الجمهورية إلى إرث لولدك.
ورد خدام على كل من يتهمه بالفساد، أنه يتحدى كل من يقدم دليلا ملموسا ضد، لافتا إلى أنه كان جزء من النظام الفاسد والمستبد، إلا أن ذلك لا يعني بشكل من الأشكال أنه جزء من هذا الفساد.. فإلى الجزء الثاني من الحوار:
• هل كنت رجل القومية العربية؟
قناعتي منذ تفتحي على السياسة كانت لدي قناعة أن الشعب السوري جزء من العالم العربي.. وليس هناك بلد عربي يقوى إلا في إطار إيجاد صيغة بين كل الدول العربية سواء كانت صيغة سياسية أو اقتصادية أو أمنية... هذا الأمر صار جزء من قناعتي السياسية آنذاك . وبالفعل قبل 1970 لم يكن للدول العربية سفير واحد بسوريا أعدنا العلاقات المقطوعة مع كل الدول العربية مثل: العراق، مصر، المغرب، تونس، المملكة العربية السعودية أي معظم الدول العربية الفاعلة... كنا نواجه إسرائيل وبالتالي هذه الدول يجب أن تكون معنا وليس ضدنا لذلك خططنا وصححنا علاقاتنا العربية مع الجميع.
ما قبل تشرين
• ولماذا انقطعت العلاقات مع هذه الدول ؟
النظام السابق في المرحلة ما قبل تشرين الثاني سنة 70 كان نظاما متشددا أخذ منحى الماركسي المتشدد وهو ما أدى لقطع العلاقات مع هذه الدول. يعني تطلع بيانات أو خطابات من النظام السابق يدعو فيها الجماهير العربية لتقوم بالثورات في هذه الدول العربية ليس مسؤوليتنا تحرير الدول العربية من حكامها، مسؤوليتنا أن نقوم بإنقاذ بلدنا ونحرره من الاستعمار أولا والنهوض به ثانيا.
ملفات الاغتيالات
• الشعب السوري يرى في عبدالحليم خدام منبع اللصوصية ورأس الفساد ومصدر الاغتيالات السياسية؟
أبدا لم أشارك سواء مع حافظ الأسد الأب أو الابن في ملفات الاغتيالات السياسية. قلتها سابقا وسأعيدها كنت جزءا من نظام فاسد ومرتشي ومستبد على مدار ثلاثة عقود زمنية ولكن لا يعني ذلك أنني فاسد ولص ومستبد وقاتل... ولست مسؤولا عن جرائم ارتكبها النظام في حق الشعب أو في ما يتعلق بالاغتيالات السياسية .... أتحمل المسؤولية الأخلاقية لأنني كنت ضمن هذا النظام، ولكن هذا لا يعني أنني مسؤول عن جرائم وأخطاء ارتكبها النظام. المسألة كانت مسألة حياة أو موت .... إما أن تسكت وتحفظ حياتك أو تتكلم وتقول رأيك علنا وعندها يكون مصيرك السجن طول حياتك هذا أقل ضرر، إن لم ترمى برصاصات طائشة مجهولة المصدر.
دليل قاطع
• لكنك كنت من المقربين من حافظ الأسد الأب وبشار الأبن وكنت تستأثر بالسلطة والثروة معا؟
أتحدى كل من يتهمني بالفساد وأقصد هنا النظام الذي سرب هذه الشائعات، عليه أن يقدم دليلا قاطعا عن هذا الفساد سواء تعلق الأمر بي أو بأحد أفراد عائلتي. وأرى أنه من الضروري تشكيل لجنة تحقق في ذلك شرط أن تكون لجنة محايدة أي دولية من خارج سورية وسأكون مستعدا للمحاكمة، إذا ثبت تورطي. الرئيس الذى هو صاحب القرار، أنا لم أكن صاحب القرار ولم يكن لي دور في السياسة الداخلية، القرار في السياسة الداخلية كان لرئيس الدولة، وأداته الأساسية هي الأجهزة الأمنية المقربة منه، كما يستعين أحياناً برئيس مجلس الوزراء أو ببعض الوزراء، أما على مستوى السياسة الخارجية، والتي كنت وزيرا لها فنعم كنت أنا المسؤول، لكن لم أكن أنا صاحب القرار بل شريكاً فيه وكنت أعد البرامج والأعمال لتنفيذ السياسة الخارجية، وأنا فخور بكل ما قدمته في القضايا الأساسية والجوهرية. على مستوى السياسة الخارجية لم نقع في سقطات كبيرة، ولم نقدم تنازلات لأي دولة لتنال من سلامة الأرض أو من سيادة الدولة.
• صرحت أنك لم تقتنع بما فعله الأسد وأنت من كان يأخذ الأسد برأيه. فكيف لم تقتنع بقراراته؟
نعم لم أقتنع بقرارات حافظ الأسد في ملفات كثيرة، أبرزها فكرة توريث أخوه ثم توريث ابنه. لقد ارتكب خطيئة وطنية كبيرة لأن في تلك المرحلة البلد كان يحكمها حزب والحزب كان يرفع شعار: "سورية جمهورية عربية ديمقراطية تقدمية "، فكيف يفكر يلغي كل تاريخ سورية بقرار مثل هذا؟ ومن تلك اللحظة بدأ انهيار نظام حافظ الأسد.
• شعرت أنه سيضيع منك منصب نائب الرئيس. هل قلت له رأيك بصراحة؟
نعم جرت مناقشة بيننا في هذا الموضوع، قال لي أريد تعيين نائب رئيس وعرفت أنه يفكر بالعميد رفعت الأسد، أخوه، فقلت له ستخلق مشكلة كبيرة وهو الصراع على السلطة وأن ما تفعله هو انتحار. وشعر أن القرار الذي أخذه ترك امتعاض في أوساط البعثيين. فاقتنع بكلامي وصرف نظر عن أخوه... ولما كان يسألونه عن الموضوع في اجتماع القيادة، فكان ينفي ذلك ولكن في إحدى المرات، سأله أحد الصحفيين: هل تفكر في توريث ابنك الحكم؟ رد عليه أن قيادة الحزب وحدها تقرر من يستلم السلطة من بعدي. لكن في الحقيقة هو كان يخطط لأبعد من ذلك وهو استبعاد أخية العميد رفعت واستقدام ابنه بشار الأسد، لذلك فتح الطريق أمام القيادات الحزبية والحكومية لسرقة ونهب المال العام لكنه في نفس الوقت كان يحصي عليهم ملفات عن الفساد وبالتالي لا يجرؤ أحد على النطق بكلمة.
تركيبة الحزب
• معنى كلامك أن الأسد اشتغل على الحزب والقيادة بملفات الفساد حتى يخضعهم لقصة توريث الحكم؟
نعم هو فهم جيدا أن تركيبة حزب البعث الاشتراكية لا تسمح بمثل تلك التجاوزات. لذلك اشتغل حافظ الأسد على هذه النقطة وقوى القيادة حوله وترك لها "الحبل على الغارب" وغير الخطة وأصبح يفكر في ابنه كوريث شرعي للحكم بعد ما كان يفكر في أخيه...
بعدها صار ابنه يتدخل في شؤون الدولة والوزارات ويسير الملفات الساخنة ولما أحاول تنبيه حافظ الأسد للأمر، يرد : اتركه... أنا سأنبهه وأعالج الموضوع بطريقتي.
طبعا فهمت لحظتها أنه يدرب "خليفته" في الحكم على الملفات الساخنة كملف لبنان. ولم يكن بإمكاني إعلان حرب مع حافظ الأسد لأن في تلك المرحلة تحول الحكم في سورية إلى حكم بوليسي. ووصل الوضع إلى حد أن إذا ثلاثة جلسوا بمقهى، فإن اثنين يعتقدان أن الثالث هو من المخابرات.
وبالتالي المواجهة كانت فاشلة ألف بالمائة. لذلك انتظرت حتى جاء الوقت المناسب وأعلنت انشقاقي عن النظام.
وثيقة تاريخية
• لكن الوثيقة التاريخية التي عين بموجبها بشار الأسد رئيسا، وأقصد القانون رقم 9 القاضي بتعديل المادة 3/ 80، تحمل توقيعك ؟
هذا صحيح، لكن حسب الدستور هناك مادة تقول أنه في حالة وفاة رئيس الجمهورية، يتولى نائب الرئيس السلطة الرئاسة، لكن وفق الدستور أيضا، فإن رئيس الجمهورية ونائبه يخضعان لقرارات قيادة الحزب. ولما توفى حافظ الأسد كنت ببلدتي "بانياس" رحت قبل ذلك بيومين. كان من عادتي أن أنزل خميس وجمعة على الساحل... رجعت يوم السبت ووصلت إلى البيت، فأبلغوني أن الرئاسة يريدونني. كان بيني وبين حافظ الأسد اتفاق على أساس يكون لنا لقاء يوم السبت. قلت يمكن من أجل اللقاء، رحت على البيت، فعرفت ساعتها أن الرجل توفى ووجدت قيادة الحزب مجتمعة وعندها بلغني الأمين العام مساعد الحزب أنهم اجتمعوا وأخذوا قرار بتعديل الدستور واختيار الدكتور بشار لرئاسة الجمهورية. تفاجأت بالوفاة وتفاجأت أيضا بالقرار.
بطبيعة الحال القرار أخذته القيادة وصدق عليه بمجلس الشعب والمطلوب من نائب رئيس الدولة أن يوقعه، فوقعته ولم يكن بإمكاني الرفض، لأن كل العوامل والعناصر المحيطة لم تكن في صالحي في حال الرفض. الجيش كان مركب تركيبة معينة ولا يوجد مجموعة عسكرية أثق فيها وتقف معي إذا قلت لا للقرار الذي اتخذ... أما الحزب، فكان مشتتا وعمليا لا يمكن الاتكال عليه وما كان عندي خيار غير أنني أنفذ قرار القيادة وأوقعه وأرضخ للأمر الواقع.
تحييد عن العمل
• جاء بشار للحكم وبقيت أنت "المقرب" للسياسة الأسدية، كيف استمريت تحت مظلة الأسد الابن مع أنك كنت رافضا لتنصيبه كرئيس؟
عمليا بعد 2000 حيدت نفسي عن العمل بتحفظ، يعني القضايا الأساسية التي اقتنع فيها أعطي رأيي فيها من باب النصيحة فقط ... الأسد كان يوافق على أرائي صباحا ويلغيها مساء ويقرر شيء ثاني. فاتخذت قرار بانتظار أول مؤتمر للحزب لإعلان استقالتي وانسحابي من النظام.
• لماذا الانتظار لغاية انعقاد مؤتمر الحزب لإعلان الاستقالة؟
حتى يعرف كل الناس سبب استقالتي، وفي حال أعلنت استقالتي في وقت مبكر واستطعت الخروج من البلد حيا، فبالتأكيد اتهم بألف تهمة وشائعة.
دوافع الاستقالة
• هل شعرت في لحظة أن بشار الأسد "ركنك" جانبا وهو الذي دفعك للاستقالة؟
منذ أواخر التسعينات، أي منذ 1998 وعقب تردي صحة حافظ الأسد، هيأت نفسي للاستقالة، لأن الوضع صار لا يحتمل وصار هناك عشوائية في القرارات وتأكدت أن حافظ الأسد سيورث ابنه الحكم خاصة بعد تكليفه ببعض الملفات الساخنة كملف لبنان. لذلك تريثت في إعلان استقالتي لأنني في حال الانسحاب، أي الاستقالة من دائرة النظام مصيري سيكون أما سجن مؤبد أو رصاصة في الرأس... كنت واعي بهذا الأمر، خاصة وأنني على دراية بملفات ساخنة وحدثت اغتيالات لأنها عارضت أو أبدت رأيها بصراحة.
• مثل من ؟
مثل الأستاذ صلاح بيطار الذي كان الأمين العام للحزب وأحد مؤسسي حزب البعث، كتب مقالة بجريدة فقتلوه بفرنسا وصلاح جديد أمين عام مساعد للحزب ظهر كخصم وند، فوضع في السجن لمدة 25 سنة... والقائمة تطول.
ليس له مثيل
• ألا تعتقد أن الفساد جزء من المنظومة السياسية؟
نظام "آل الأسد" نظام ليس له مثيل، ومنظومة الفساد عند الأسد الأب والابن لا تشابهها أي منظومة فساد في العالم. مع نظام الأسد يا إما يعيش الإنسان معهم بمرارة دائمة ويسكت ويفقد قدرته على الإحساس والشعور ولا يفكر في المصلحة العامة أصلا، أو يجهر برأيه ويكون مصيره السجن هذا إذا حالفه الحظ ولم تم اغتياله. في عهد الأسد الأب والابن صار الفساد أمر عادي... بالخمسينات والأربعينات يسجن كل موظف يتهم بالرشوة.
أما في عهد حافظ الأسد انفتح باب الفساد لكل أقربائه، فصار الفساد ظاهرة طبيعية وانتقل درجات. وصارت الدولة تسير بالفساد ووصل لحد أن أي موظف عنده معاملة أو وثيقة لا يمكنه الحصول عليها إلا إذا منح رشوة.
• يعني تشكلت عصابات للفساد علنا في عهد حافظ الأسد؟
كان رئيسها صهره واستشرى الفساد أكثر في عهد بشار الابن ولكن تغير الشخص وصار ابن خاله ( بشار الاسد) وفتح له الباب، فصارت العملية حتى على حساب خبز الناس...هذا الأمر زاد من قناعتي بوجوب الرحيل عن النظام لكن رحيل يمكنني من حفظ حياتي والخروج من البلد آمنا... وبقيت حتى جاء مؤتمر الحزب العاشر كنت أول واحد يخطب بالمؤتمر هو أنا في (يونيو) حزيران 2005. وطلبت إعفائي من منصب الرئيس وعضو القيادة القطرية والجبهة التقدمية المنضوية تحت لواء حزب البعث وتحدثت عن الوضع وانتقدت السياسة الخارجية السورية والفساد المستشري في الداخل وانتشار الفوضى وتفكك المجتمع السوري على أساس طائفي. المهم أنني قلت كل ما أردت وأعلنت استقالتي.