في غضون خمسة أيام منذ انتهاء مهلة تصحيح أوضاع العمالة، فاجأتنا الأرقام المهولة، وصدمتنا الحقائق الموجعة عن سوق العمل الذي كان أشبه ما يكون بصرح هوى ووهم تبدد. حتى إذا ما نظرنا حولنا أفقنا على واقع مؤلم كان لا بد أن نواجهه عاجلا أم آجلا. اليوم لم يعد للناس إلا هم واحد يتحدثون عنه: الحملة التفتيشية وآثارها... ثلة تبتهج، وثلة تتنفس الصعداء، وكثيرون يشتكون ويحذرون من عواقب اقتصادية قاسية لهذه الحملات على سوق العمل السعودي. ولكل دوافعه وتبريراته التي على متخذي القرار أخذها في الحسبان.
الصحف تنقل الخبر تلو الآخر عن نتائج الحملات التفتيشية التي بدأتها وزارتا العمل والداخلية منذ أول يوم في العام الهجري الجديد ضد المخالفين لأنظمة العمل والإقامة. والأرقام تحكي الحكاية بصدق وشفافية. ففي أول يوم للحملة تم ضبط قرابة 5000 مخالف لنظامي الإقامة والعمل، منهم قرابة 4000 مخالف في جدة. وفي مكة المكرمة تضبط الشرطة 15 ألف من المخالفين. كما أعلن القنصل الأندونيسي في جدة أنه منذ بداية الفترة التصحيحية تم إصدار 90 ألف وثيقة سفر، بينها 13 ألف وثيقة لتصحيح أوضاع الإقامة والعمل. ومثل هذه الأرقام المرعبة عن العمالة المخالفة لأنظمة العمل أو الإقامة تتكرر في كل مناطق المملكة من العاصمة حتى في المدن الصغيرة. وفي الحقيقة، لا ينبغي أن تفاجئنا الأرقام بقدر ما توقظنا على واقع مرير كنا نعيشه بكل ثقة واستكانة، ظنا منا أن تلك المرحلة من حياة مجتمعنا هي واقع طبيعي لا يتغير ورخاء اقتصادي لا يتبدل. لكن الحقيقة أن ذلك الواقع كان خطرا محدقا، لأنه مبني على اقتصاد مشوه قائم على عمالة لا يمكن ضبطها أو محاسبتها. وإزاء هذا الوضع المشوه، ومحاولات التصحيح، من المفيد لنا ألا نستطرد في محاولة وضع اللوم على جهة أو أخرى في ما أوصلنا لهذا الوضع، أو إزاء صعوبات التأقلم مع الوضع الجديد.
الأزمة التي نعيشها اليوم، ليست كلها ذنب الشباب والشابات ممن لم يكسبوا سباق المنافسة مع عمالة أجنبية رخيصة شاءت لها أقدارها أن تقتات على فرصهم. وليست كلها ذنب أصحاب الأعمال في سعيهم للربح. كما أنها ليست ذنب العمالة غير النظامية التي احتلت الوظائف وعملت بجهدها وعرقها الذي اقتات عليه بعض المتاجرين. بل وربما أستطيع القول إن هذه الأزمة ليست ذنب المتسترين على تلك العمالة والذين وجدوا في هذا التستر الضرع الحلوب الذي يدر عليهم الربح الوفير في غفلة أو تواطؤ من المجتمع بأسره. والصحيح غالبا أن المسؤولية مشتركة على كل هؤلاء، كما هي على أنظمة العمل والإقامة التي حوت من الثغرات أو التشدد ما أوجد البيئة الملائمة لتلك الظواهر.
ولتلك الأسباب مجتمعة ومنفردة، كانت النتيجة الحتمية هي وضعا اقتصاديا مشوها وغير طبيعي أدى إلى تفاقم أزمة البطالة بين الشباب وتدني مستوى الخدمات واستغلال العمالة الأجنبية الرخيصة، والتي ــ بدورها ــ ساهمت في تفاقم الأزمة. إنه وببساطة «احتلال للسوق السعودي» من قبل العمالة التي لا تتقيد بنظام ولا تخضع لقوانين ــ كما يقول عنوان كتاب الزميل جمال خاشقجي.
إن صدمة الإفاقة من هذه الأزمة مربكة ومزعجة، وقد تكلف الكثير لما لها من سلبيات واضحة في الوقت الحالي. لكنها حتما هي صدمة العلاج الناجع وعلينا دفع الثمن؛ لأن التغيير لن يكون سريعا ومشكلات سوق العمل المتراكمة عبر عقود لن نجد لها حلا بين يوم وليلة. وإذا كان الهدف الأساسي لحملة التصحيح هو تصحيح وضع خاطئ وخطير، فإن التصحيح لا يبدأ إلا بالقضاء على الأخطاء وعلاج جذورها ومسبباتها. كما أنه لا يأتي إلا عن طريق تحديث القوانين التي توازن بين مصالح المجتمع الآنية والبعيدة المدى، وتفعيل تلك القوانين بشكل صارم، بكل جدية وحزم ودون استثناءات. فالاستثناءات هي الثقب الذي يعرقل سير السفينة.
akashgary@gmail.com
الصحف تنقل الخبر تلو الآخر عن نتائج الحملات التفتيشية التي بدأتها وزارتا العمل والداخلية منذ أول يوم في العام الهجري الجديد ضد المخالفين لأنظمة العمل والإقامة. والأرقام تحكي الحكاية بصدق وشفافية. ففي أول يوم للحملة تم ضبط قرابة 5000 مخالف لنظامي الإقامة والعمل، منهم قرابة 4000 مخالف في جدة. وفي مكة المكرمة تضبط الشرطة 15 ألف من المخالفين. كما أعلن القنصل الأندونيسي في جدة أنه منذ بداية الفترة التصحيحية تم إصدار 90 ألف وثيقة سفر، بينها 13 ألف وثيقة لتصحيح أوضاع الإقامة والعمل. ومثل هذه الأرقام المرعبة عن العمالة المخالفة لأنظمة العمل أو الإقامة تتكرر في كل مناطق المملكة من العاصمة حتى في المدن الصغيرة. وفي الحقيقة، لا ينبغي أن تفاجئنا الأرقام بقدر ما توقظنا على واقع مرير كنا نعيشه بكل ثقة واستكانة، ظنا منا أن تلك المرحلة من حياة مجتمعنا هي واقع طبيعي لا يتغير ورخاء اقتصادي لا يتبدل. لكن الحقيقة أن ذلك الواقع كان خطرا محدقا، لأنه مبني على اقتصاد مشوه قائم على عمالة لا يمكن ضبطها أو محاسبتها. وإزاء هذا الوضع المشوه، ومحاولات التصحيح، من المفيد لنا ألا نستطرد في محاولة وضع اللوم على جهة أو أخرى في ما أوصلنا لهذا الوضع، أو إزاء صعوبات التأقلم مع الوضع الجديد.
الأزمة التي نعيشها اليوم، ليست كلها ذنب الشباب والشابات ممن لم يكسبوا سباق المنافسة مع عمالة أجنبية رخيصة شاءت لها أقدارها أن تقتات على فرصهم. وليست كلها ذنب أصحاب الأعمال في سعيهم للربح. كما أنها ليست ذنب العمالة غير النظامية التي احتلت الوظائف وعملت بجهدها وعرقها الذي اقتات عليه بعض المتاجرين. بل وربما أستطيع القول إن هذه الأزمة ليست ذنب المتسترين على تلك العمالة والذين وجدوا في هذا التستر الضرع الحلوب الذي يدر عليهم الربح الوفير في غفلة أو تواطؤ من المجتمع بأسره. والصحيح غالبا أن المسؤولية مشتركة على كل هؤلاء، كما هي على أنظمة العمل والإقامة التي حوت من الثغرات أو التشدد ما أوجد البيئة الملائمة لتلك الظواهر.
ولتلك الأسباب مجتمعة ومنفردة، كانت النتيجة الحتمية هي وضعا اقتصاديا مشوها وغير طبيعي أدى إلى تفاقم أزمة البطالة بين الشباب وتدني مستوى الخدمات واستغلال العمالة الأجنبية الرخيصة، والتي ــ بدورها ــ ساهمت في تفاقم الأزمة. إنه وببساطة «احتلال للسوق السعودي» من قبل العمالة التي لا تتقيد بنظام ولا تخضع لقوانين ــ كما يقول عنوان كتاب الزميل جمال خاشقجي.
إن صدمة الإفاقة من هذه الأزمة مربكة ومزعجة، وقد تكلف الكثير لما لها من سلبيات واضحة في الوقت الحالي. لكنها حتما هي صدمة العلاج الناجع وعلينا دفع الثمن؛ لأن التغيير لن يكون سريعا ومشكلات سوق العمل المتراكمة عبر عقود لن نجد لها حلا بين يوم وليلة. وإذا كان الهدف الأساسي لحملة التصحيح هو تصحيح وضع خاطئ وخطير، فإن التصحيح لا يبدأ إلا بالقضاء على الأخطاء وعلاج جذورها ومسبباتها. كما أنه لا يأتي إلا عن طريق تحديث القوانين التي توازن بين مصالح المجتمع الآنية والبعيدة المدى، وتفعيل تلك القوانين بشكل صارم، بكل جدية وحزم ودون استثناءات. فالاستثناءات هي الثقب الذي يعرقل سير السفينة.
akashgary@gmail.com