لم يترك اللبنانيون خلال حروبهم الأهلية فكرة تخطر على بال إلا وأنزلوها إلى ساحة الصراع فيما بينهم. لم يتركوا شتيمة أو لعنة أو تهمة بالخيانة إلا واستثمروها في بازار الكراهية والإلغاء المتبادل. وحين رسمت لهم الدول الكبرى خطوط تماس حمراء لا يملكون تجاوزها عمدوا إلى تقاسم التاريخ، وراح كل منهم ينتزع من بين صفحاته ما يعزز وجوده الطائفي والفئوي تاركا للآخر أن يتلهى بوحل العصور وقشور الأمجاد. كان الانتصار الحاسم متعذرا على الجميع في المعارك، ولذا لم يكن بد من الاستغاثة بالأدباء والفنانين وجر إبداعهم إلى خنادق الصراع في عملية الاستقواء المتبادل. هكذا بدأ المتصارعون يصادرون كل إلى جهته أفكار جبران والريحاني، وقصائد الشاعر القروي والأخطل الصغير وسعيد عقل، وصولا إلى الغناء، حيث أريد لوديع الصافي وصباح وماجدة الرومي وأليسا وجوليا بطرس أن يحولوا حناجرهم إلى أبواق للتطاحن اليومي والتحريض المتبادل. لم يكن من السهل رغم ذلك أن يتم إنزال المسرح الغنائي الرحباني أو صوت فيروز الساحر من سدة الأحلام الأثيرية الجامعة إلى حضيض التناحر اللبناني السقيم، ففي ذينك المسرح والصوت عناصر إبداعية وفوق أرضية تهب كالنسيم فوق سطوح البيوت وترفع أرواح المتنازعين عن أدران البغضاء وشقاء الأقدار، وحين أطلق أنسي الحاج على فيروز لقب «شاعرة الصوت» لم يكن يجافي الحقيقة في شيء، وهي التي لا نقوى على النهوض صباحا دون إيذان من صوتها الملائكي المحمل بترجيعات البلابل. وحين وصف محمود درويش صوتها الاستثنائي في الحرب بأنه «موزع بالتساوي بين طائفتين»، فقد كان يشير إلى تحول الصوت الواحد من الثوابت المشتركة القليلة في حياة اللبنانيين. لا يحق لزياد الرحباني، تبعا لذلك، أن يستثمر بنوته لفيروز على حساب حضورها الأيقوني في مخيلة اللبنانيين والعرب، وهي التي لم تدخل يوما في دهاليز المماحكات السياسية التقليدية، صحيح أن لها الحق كمواطنة وإنسانة أن تحب من تشاء وتكره من تشاء، ولكنها وحدها من تملك المجاهرة بذلك والإفصاح عن مكنوناتها الداخلية. ومع ذلك، فإن سيل الانتقادات أو المدائح الذي أحاط بالمشاعر المنسوبة إليها سينضب قريبا، كما نضب من قبل، وسيظل صوت فيروز توأما للعذوبة وحارسا أمينا لطفولة العالم وصباحاته الآتية.