لم يطل العمر بمحمد الثبيتي لكي يذهب بإنجازه الشعري المتميز إلى تخومه الأخيرة، أو يستنفد بشكل كامل تلك الطاقة الكامنة في شعره، والتي ظل لهيبها يفصح عن نفسه قصيدة تلو قصيدة ومجموعة إثر أخرى. ومع ذلك، فإن ما أنجزه شاعر «التضاريس»، على قلته الكمية، لا يقاس أبدا بعدد الصفحات، بل بقوة الدفع الروحي والتعبيري التي جعلت منه أحد أبرز رموز التجديد في المملكة العربية السعودية، وفي العالم العربي بوجه عام. واللافت في هذا السياق أن بعض الشعراء الأكثر غزارة من الثبيتي، والذين تعد إصداراتهم بالعشرات، لم يستطع شعرهم أن يشق بعد رحيلهم طريقه إلى البقاء، في حين أن صاحب «موقف الرمال» يمتلك من المشروعية الشعرية ومن القدرة على الإدهاش ما يمكن قصائده من الصمود طويلا في وجه العدم. لقد أدهشني، ونحن على بعد عامين من رحيله، إن هذا الشعر الذي فرغت من قراءته للتو ليس مكتوبا باللغة وحدها، بل بتضافر خلاق وفريد بين العصب والأظافر والموهبة والروح. كأن الثبيتي لم يكن ليقطف القصيدة فجة أو مترهلة، قبل أوانها أو بعده، بل في اللحظة الملائمة للقطاف حيث العسل في أوجه كما المرارة. والكتابة هنا كشف وتأويل بقدر ما هي ضراعة وابتهال وتجسيد كامل الغنائية للعلاقة بين ما تمت خسارته وما تلوح تباشير عودته في الأفق. تلوح في هذه التجربة الغنية أعقاب شموس غاربة وبقايا صحارى وبيارق وحداءات، ونتبين صدى أصوات الشعراء الغابرين الذي رفعوا منسوب الشعرية العربية إلى حدوده القصوى. وتلوح ــ في الوقت ذاته ــ قدرة الثبيتي الفائقة على تحديث أدوات القصيدة لغة وصورة وإيقاعا وحفرا في باطن المعنى. القصائد بمعظمها ذات طابع ابتهالي مشوب بانتظار المخلص الذي يهتف به الشاعر بحرقة «مرحبا سيد البيد/ إنا نصبناك فوق الجراح العظيمة.. حتى تكون سمانا وصحراءنا وهوانا..». الثبيتي بهذا المعنى هو المعبر الأمثل عن روح المكان وجماليات الصحراء وصدى الحدوس الجمعية. وهو أكثر من أقام تضرعات استسقاء رمزية للأمطار المحتبسة في أحشاء الغيوم الحرون، حيث هتف في إحدى قصائده «هيه يا عنقاء هزي شجر الريحان/ يهمي شعرك العملاق أمطار الشتاء». ومن أغرب المصادفات أن تضرعات الشاعر لم تذهب أدراج الرياح، وأن المطر الذي طال انتظاره بات يرفد الصحراء العطشى بكل ما تحتاجه من أسباب التجدد والانبثاق والأمل بالمستقل.