-A +A
توفيق السيف
لا شك ان عددا مهما من المبادئ والمفاهيم التي تشكل مضمون الدولة الحديثة، هو نتاج الحلول الفلسفية التي قدمها مفكرون مثل جان جاك روسو وجون لوك وتوماس هوبز، وغيرهم من كبار الفلاسفة الذين حققوا اختراقات اساسية في الفكر السياسي وانتقلوا به من مرحلة التاملات النظرية الى مرحلة تقديم الحلول العملية.
ربما لا يتوقع الكثير من القراء ان ندرج اسم نيقولو مكيافيلي، السياسي والكاتب الايطالي بين تلك الاسماء اللامعة، بل لعل الكثيرين يعتبرونه بين الظواهر السلبية في الفكر السياسي. فحين تذكر المكيافيلية، تقفز الى الذهن صورة شخص طماع لا يتورع عن فعل كبيرة ما دامت توصله الى اغراضه. ومن هنا اقترن اسم مكيافيلي والمكيافيلية بعبارة «الغاية تبرر الوسيلة»، وهي من العبارات التي تستعمل في الاشارة الى الفارق بين الاخلاق والسياسة او انعدام الاخلاق في السياسة. مثلها تماما مثل عبارة «فرق تسد» وأمثالها. لكن هذا الانطباع الذي ربما تولد لدى بعض من قرأ في الادب السياسي المعاصر، لا يكشف عن الحقيقة تماما. بل ربما تجد بين مؤرخي الفكر من يدعي انه لولا مكيافيلي لما ظهر هوبز ولوك وروسو، بل والفلسفة السياسية الحديثة بشكل عام. ومع اني لا اميل الى الربط الشديد بين الاشخاص والحوادث، الا ان الانصاف يقتضي الاشارة الى ان مكيافيلي كانت له الريادة في فتح باب جديد من الجدل الفلسفي لم يكن معهودا قبله. حتى القرن السادس عشر الميلادي، كانت الفلسفة السياسية تدور حول فكرتين محوريتين: الكمال الانساني، والانسجام مع النظام الكوني. واضاف اليه الفلاسفة المسلمون لمسات دينية بعدما ترجمت الاداب اليونانية الى اللغة العربية في اواخر العصر العباسي. وبقي المنهج المثالي سائدا في الفكر الاسلامي حتى اليوم. ولعل تأثير الفلاسفة المسلمين يبدو بوضوح اكبر في فكرة الكمال الانساني التي اضاف اليها الفيلسوف والمتصوف المعروف ابن عربي الكثير من الصياغات والتبريرات والشروح التي نعرفها اليوم. كان ارسطو قد قال ان العلم هو الفلسفة التي يحصل عليها الانسان اذا نشط جميع ملكاته العقلية الكامنة. اما ابن عربي فقد قلل من دور العقل، وركز على دور الايمان في اكتشاف الحقيقة. العلم – حسب رأيه – ليس بكثرة التعلم، بل هو نور يقذفه الله في قلب العبد. فاذا حصل الانسان على العلم الالهي فقد تميز عن عامة الناس، واصبحت له سلطة ذاتية على قلوبهم وعقولهم لا تحتاج الى تعريف او تبرير خارجي. اكتشاف طريق الكمال واكتشاف نظام العالم، وكيفية الانسجام معه، أي المعايير الاخلاقية التي يجب الالتزام بها كي نصبح في حالة تكامل مع النظام الكوني المحيط بنا، كانت – كما اشرنا – محور النشاط الفلسفي في اوربا حتى العصور الوسطى.

كرس مكيافيلي كتابه الاشهر «الامير» لكشف عوار هذا المنهج. وقد حقق هذه الغاية من خلال اسلوب غير مباشر، ركز على كشف حقيقة العمل السياسي ولفت انظار الناس الى الفارق الكبير بين المفترض والمتخيل في الفلسفة المثالية وبين الواقع القائم في الحياة السياسية. كما اوضح بجلاء ان النبلاء والقادة ورجال الكنيسة ليسوا جنسا خاصا من الخليقة وليسوا بشرا كاملين، بل هم رجال عاديون يعيشون ويفكرون ويعملون مثلما يفعل سائر الناس، وهم يفعلون الافعال الخيرة ويرتكبون الاخطاء مثل الناس كافة. قبل مكيافيلي، اهتم الفلاسفة بسؤال: كيف ينبغي للناس ان يعيشوا، اما هو فقد اهتم بسؤال: كيف يعيش الناس فعلا. فانزل السياسة من سماء المثال الى ارض الواقع، وعرضها للناس كما هي من دون رتوش. كما لفت الانظار إلى حقيقة ان السياسة عمل بشري دنيوي يتأثر بكل ما لدى البشر من افهام وهموم وتطلعات وقدرات ونقاط ضعف. كان افلاطون وارسطو قد اعتبرا ان قيام الحكومة الفاضلة منوط بتوفر شروط مناسبة تأتي صدفة. اما مكيافيلي فقد نفى امكانية قيام حكومة مثالية، لان النموذج المثالي لا يمكن ايجاده في الواقع، ولان الناس لا يتفقون على تصور واحد لما يعتبرونه مثاليا. وقال ان الحكومات تتفاضل في ما بينها بحسب اجتهاد المجتمع وحكامه في توفير الشروط اللازمة، فالامر يتعلق بالمعرفة والارادة وليس بالصدف.
هذا التفكير الواقعي هو الذي مهد الطريق امام الجيل الجديد من الفلاسفة السياسيين، كما رأينا عند توماس هوبز الذي اتخذ منهجا تجريبيا- ميكانيكيا مغرقا في المادية، ينفي أي دور للمجردات والمثل غير المادية في الفعل الانساني، ويربط حتى الاحساس بالفرح والالم بعوامل مادية بحتة، ضمن ما وصفه بسلسلة العلل والنتائج.
صحيح ان النظرية الاخيرة قد تعرضت لنقد كثير من جانب الفلاسفة اللاحقين لاسيما روسو ومن تبعه. لكن لا شك ان تحول الفلسفة من التنظير في المجرد والمثال، الى محاولة فهم الواقع كما هو، من اجل تنظيمه او صياغة مسارات بديلة، هي ثمرة للاختراق الكبير الذي حققه مكيافيلي، رغم ما تحمله من عنت من جراء وصفه لواقع السياسة وتقريبها الى اذهان الناس.
talsaif@yahoo.com