لم يكن بالأمر المستغرب أن تثير مسألة إحراق مكتبة «السائح» في طرابلس اللبنانية كل هذا القدر من الغضب والسخط والاستهجان، لا في الأوساط الثقافية وحدها، بل على كافة الصعد الاجتماعية والسياسية والشعبية. صحيح أن مكتبات كثيرة قد ذهبت طعما للنيران خلال الحروب اللبنانية المتعاقبة، ولكن الأمر يختلف تمام الاختلاف، ويتخذ منحى أكثر إيلاما حين يقدم مجهولون ملثمون على إحراق إحدى أكثر المكتبات عراقة وتنوعا، في بلد لطالما تغنى شعبه وقادته بكونه بلد العلم والثقافة والإشعاع. والمؤلم أيضا أن المكتبة المحروقة تعود للكاهن إبراهيم السروجي الذي طالما عرف بتواضعه وأخلاقه السمحة، ومحاولته الدائمة لإقامة حوار بين المسيحية والإسلام يركز على القواسم المشتركة بين الديانتين السماويتين اللتين يتألف منهما النسيج اللبناني. على أن حادثة الإحراق تلك ليست معزولة ــ بأي حال ــ عما يصيب العالم العربي في العقود الأخيرة، حيث تضيق شيئا فشيئا مساحة الحرية، ويتبرم الكثيرون بالاختلاف ويرون إلى الحقيقة بوصفها اختراعا خاصا بهذه الجماعة أو تلك، لا ينبغي أن يدعي امتلاكه أحد. وفي حين أن العالم يشرع أبوابه لكل أنواع المعرفة وضروب العلم والاجتهاد، ننكفئ نحن على أنفسنا كالشرانق، ونصم آذاننا عن رياح الأسئلة المؤرقة، ونصادر كل ما يقطع علينا طريق الاستسلام لسباتنا المتطاول. والحادثة ــ من جهة أخرى ــ ليست منبتة تماما عن أحداث مماثلة عرفتها البشرية خلال كفاحها ضد عتو الظلام المستشري. فقد سبق للخليفة الأندلسي أبو يعقوب المنصور أن أحرق الكتب الفلسفية لابن رشد بعد أن انقلب عليه واتهمه بالإلحاد والكفر. ولم يكن إحراق هولاكو المغولي لمكتبة بغداد في القرن الثالث عشر الميلادي سوى محاولة رمزية لإحراق العقول التي بنت صرح الحضارة العربي ومنعها من استيلاد أي مشروع مماثل. واللافت، هنا، أن بعض كبار المبدعين قد لجأوا عامدين إلى إحراق كتبهم ومكتباتهم احتجاجا على سوء طوالعهم أو على عجز الكتب عن رفدهم بأسباب العيش الكريم، كما حدث لأبي حيان التوحيدي في مطالع الألفية الثانية. في روايته الشهيرة «اسم الوردة» يجعل الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو من الكتب في العصور الوسطى محورا رمزيا للصراع حول مستقبل العالم ومآله الموزع بين الجهل المطبق والحياة الآهلة بالتنوير وفرح المعرفة. وحين تحترق مكتبة الدير الإيطالي الذي تتم فيه الأحداث يهتف بطل الرواية بحزن بالغ «لقد كانت الوردة اسما، ونحن لا نمسك إلا بالأسماء». ومع ذلك، فإن هذه الأسماء ــ ولو تم إحراقها ــ محفورة بشكل راسخ في عقول البشر المنافحين بثبات عن ذاكرتهم الجمعية وعن حقهم في اقتراف المعرفة والأمل وفكرة الحرية.