-A +A
شوقي بزيع
ليس من الغرابة في شيء أن يذهب بعض الباحثين إلى اعتبار الفنون الجميلة، ومن بينها الموسيقى والغناء والشعر، قادرة على معالجة العديد من الأمراض النفسية والعصبية، وربما العضوية أيضا. ذلك أن الفنون في الأصل لم تنشأ إلا في كنف الإحساس بالألم والجوع والمرض والعزلة والخوف من الموت. لقد رقص الإنسان الأول لكي يستعيض بجسده عن غياب اللغة، ولكي يتزلف بواسطته للآلهة ويعبر عن ألمه أو فرحه أو سخطه أو ابتهاجه بالعالم. كان الجسد في البدء ينوب عن القصيدة واللوحة والمنحوتة والصرخة. وحين اهتدى الإنسان إلى الرسم والنحت، إنما فعل ذلك لانعدام المسافة في نظره بين الأشياء وصورتها، بحيث تنوب الصورة عن المصور، والرسم عن المرسوم. وحين كان الفراعنة القدماء ينقشون صور الثيران على ضفاف الدلتا، فقد كانوا يبتكرون طريقة ما لمنع الزرع من اليباس ودفعه إلى الأعلى. واللافت في هذا السياق أن البشرية احتاجت إلى قرون كثيرة لاحقة لكي يثبت علماؤها أن بعض الزهور والأشجار تستجيب للموسيقى الراقية كما يفعل البشر، وتعبر عن استجابتها بتسريع وتيرة النمو أو التفتح. لقد ذهب الفيلسوف الفرنسي باشلار، في تعليله لازدهار الرواية المطرد في العقود الأخيرة، إلى أن الرواية تمنحنا فرصة نسيان آلامنا المؤرقة وهموم عصرنا الكثيرة والإقامة في حيوات أخرى موازية. ونحن لدى قراءتها نمتلك القدرة على التماهي مع الأبطال في لحظات هناءتهم وصعودهم، ونمتلك بالمقابل فرصة الانسحاب إلى حيواتنا الأولى لدى وقوعهم في شرك الهلاك. في بعض المناطق الأمريكية يعالج هنود النافاخو بعض أمراضهم بالإنشاد والرسم. فلتسع ليال متواصلة يصغي المريض للأناشيد التي تخيف ظلال الشر في جسده، بينما تعمل يد الرسام إلى جواره على رسم السهام والشموس والطيور والصواعق والثعابين التي تحرره من الوهن وتعيده معافى إلى أحضان الطبيعة. وقد استحدث بعض أطباء القصر العيني في القاهرة قبل سنوات جناحا خاصا لمداواة بعض المصابين بالأمراض العصبية عبر قراءة أشعار نزار قباني وبدر شاكر السياب وصلاح عبدالصبور ومحمود درويش وآخرين غيرهم على مسامعهم التواقة إلى السكينة. على أن كل ذلك لا يمنعنا من التساؤل عن النسبة المئوية للقصائد والرسوم والأغاني الراهنة التي يمكن استخدامها كعلاج للمرضى، في زمن الغثاء العميم الذي ضرب هذه الفنون وحولها إلى مساحة سائبة للزعيق أو الخربشة أو الإنشاء السقيم.