-A +A
شوقي بزيع
يذهب بعض النقاد والدارسين إلى القول بأن كل من يتعاطى الكتابة يمكن له أن يكتب رواية واحدة على الأقل، هي قصة حياته. ففي نظر هؤلاء أن كل حياة مهما تواضعت، هي اختزال لسيرة الإنسان على الأرض وإعادة تمثيل رمزية لملحمة الوجود الكبرى. لكن ما ينقص تلك الحياة لكي تـتحول إلى رواية هو امتلاك أصحابها لناصية الكتابة من جهة، وقدرتهم على تظهير الجانب الأكثر سرية واتصالا بالبوح الحميم وتمزقات النفس الإنسانية. على أن فن السيرة لا يحتاج إلى خلق حيوات مجترحة من لدن الخيال الصرف أو نماذج إنسانية موازيـة للنماذج الواقعية، بل يحتاج إلى براعة المؤلف الفائقة في تقديم الحياة كما عاشها في الواقع، لا كما أراد لها أن تكون. وقد يكون السبب الأهم لتفوق هذا الفن في الغرب على مثيله العربي هو أن الكتاب هناك يقدمون حياتهم كما عاشوها دون مواربة أو خجل، كاشفين بصدق وجرأة بالغين عن عيوبهم ومثالبهم وعقد نقصهم، في حين أن معظم السير العربية تقوم على تمويه العيوب والتستر على العقد والمكبوتات، بما يجعل الكتابة حجابا للحقيقة لا أداة لاكتناهها. ومع ذلك فإن استثناءات قليلة تطل برأسها هنا وهناك. من بينها، على سبيل المثال لا الحصر، «أيام» طه حسين، و «الخبز الحافي» لمحمد شكري، و «بيضة النعامة» لرؤوف مسعد. وما يميز هذه السير عن سواها هو صدقها اللافت وجرأتها المفرطة وانحيازها إلى الحقيقة العارية رغم ما يترتب على صاحبها من أثمان باهظة داخل بيئته ومجتمعه. سيكون الأمر في الطرف الآخر من الكوكب مختلفا تمام الاختلاف، حيث سنعثر بفضل الجرعات العالية للحرية على نماذج من السير الشخصية بالغة الفرادة، وأدعى إلى المتعة والتشويق من المتخيل الروائي نفسه. فمن يقرأ سيرة بابلو نيرودا «أشهد أنني قد عشت» سيعثر على كنز من الوقائع والاعترافات وجماليات التلذذ بالعيش لا حدود له. وكذلك الأمر بالنسبة لمذكرات الكاتب اليوناني الشهير نيكيس كازانتزاكي «تقرير إلى غريكو» التي تضارع كافة رواياته في عمقها وثرائها التعبيري وصدقها الجارح. يمكننا أيضا أن نتحدث بالحماس نفسه عن مذكرات ماركيز التي وضع لها عنوان «عشت لأروي»، والتي تجعلنا نعثر على المفاتيح السرية لعمارة صاحب «خريف البطريرك» الروائية. والأمر نفسه ينسحب على الاعترافات الهذيانية لسلفادور دالي في سيرته المعنونة «أنا السوريالية»، وصولا إلى مذكرات سينمائي السوريالية الأمهـر لويس بونويل الذي شاركه دالي في صنع الفيلم السينمائي الأكثر غرابة في تاريخ السينما «الكلب الأندلسي».. سيكون من الصعب بالطبع تعداد السير التي تركها مبدعون كبار كعلامات فارقة تضيء لنا طريق العثور على ما استغلق من مكابداتهم وأفكارهم وهواجسهم، ومع ذلك فليس لنا سوى الاحتفاء الحميم بأولئك الذين جعلوا هذه الأرض مساحة للفرح والإبداع والثراء المعرفي والروحي.