-A +A
خالد ربيع (جدة)
لو تأملنا ــ مجددا ــ فيلم «اغتيال مدينة»، وهو أول فيلم تسجيلي سعودي، لوجدناه بمثابة معالجة تسجيلية لأحداث الحرب اللبنانية التي اندلعت في منتصف السبعينات. غير أن هذا الفيلم، الذي أخرجه السعودي الرائد عبدالله المحيسن في 1977م، تميز برؤية سينمائية محايدة بعيدة عن إثارة النعرات الطائفية أو الأيديولوجية، ونقل من خلاله مشاهد حية وصورا واقعية من قلب الأحداث إبان اشتعال الحرب اللبنانية الأهلية ــ آنذاك. ليس ذلك فقط ما منح الفيلم قيمة توثيقية هامة، وجعل منه تسجيلا صادقا لبشاعة الحرب التي استمرت ستة عشر عاما بدأ من الثالث عشر من أبريل عام 1975م، حيث انطلقت الشرارة الأولى للحرب لتوقع أكثر من 150 ألف قتيل ونحو20 ألف مفقود وشردت مئات الآلاف من اللبنانيين على مختلف طوائفهم ومذاهبهم. ولكن ما يمنح الفيلم على الدوام هو لغته التحذيرية ونبوءته المستقبلية للأوضاع التي ستتفجر في المنطقة وتكون بدايتها اغتيال مدينة جميلة من أجمل الحواضر العربية: بيروت. التي ما زالت تعاني من تداعيات وتبعات تلك الحرب البغيضة. والفيلم لمن يتفحصه اليوم بعد قرابة أربعين عاما من إنتاجه، يجده نصا بصريا متماسكا، يخاطب مشاهده بلغة الوثيقة السينمائية الدائمة التأثير. إذن، لقد عبر الفيلم ذو الدقائق الست عشرة، وبلغة بصرية موجزة وعميقة، عن رفض تلك الحرب التي ما زالت في بداياتها وقت إنتاج وعرض الفيلم، فكان الفيلم بمثابة تنبيه لما يمكن أن يؤول إليه الحال إن استمرت الحرب.. وبالفعل صدقت نبوءة «المحيسن» وأدت السنوات الست عشرة السوداء إلى مزيد من الخراب والدمار، سواء على المستوى المدني أو الإنساني، ليس في بيروت وحدها، بل طال عواصم أخرى قريبة منها ومدن عربية أخرى تم اغتيالها كما تم اغتيال هذه المدينة... هكذا تأجج الصراع بين أطراف الحرب: القوات اللبنانية، حزب الكتائب اللبنانية، حزب الوطنيين الأحرار، منظمة التحرير الفلسطينية، إسرائيل، الولايات المتحدة الأمريكية، الحركة الوطنية اللبنانية، حركة أمل، حزب الله، الحزب التقدمي الاشتراكي. إضافة إلى جماعات وطوائف لعبت دورا في الصراع: المسلمون السنة، المسلمون الشيعة، الدروز، الموارنة، والفلسطينيون. وهي ذات الأطراف التي تلعب نفس الأدوار الآن مع تغيير طفيف في (السينوغراف) الواقعي ــ إن صح القول.. لكن مع كل السيناريوهات التي كانت مطروحة في السبعينات لم ينحز الفيلم لأي طرف، بل كان بمثابة الرسالة للجميع، بأن ينصتوا لصوت العقل ويحقنوا الدماء.. ولكن دون طائل.
مقدمة الفيلم تدور في دقيقتين من الرسوم المتحركة، تصوران الصراع العالمي، في مرحلة التقاطب الدولي الشديد، بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، من خلال دلالات بسيطة، ومعبرة، تبين رجلين، أحدهما: عاري الساقين، بسرواله القصير، والقامة النحيلة الطويلة، والقبعة المتطاولة، وجراب المسدس المتدلي على خاصرته. وثانيهما: قصير وبدين، يرزح تحت المعطف الثقيل، ذي اللون الأحمر، والقبعة المستديرة. بينهما توجد الكرة الأرضية، الأول يشير إلى السماء، ويقتطف قطعة من الكرة.. والثاني يشير إلى الأرض، ويقتطف قطعة أخرى من هذه الأرض.

ويبدأ الفيلم فعليا بمشهد امرأة لبنانية، تنوح عند قبر عزيز لها.. هذه المرأة المتشحة بالسواد، لعلها هي بيروت ذاتها، أو نموذجها، وناسها الأبرياء، الباحثون عن لحظة نور، ونقطة ماء.. هكذا يبدأ الفيلم كمرثية سينمائية لمدينة بيروت التي هاجمتها جرثومة الحرب. ثم ينطلق التعليق: (ماذا فعلت اليد باليد؟. لماذا انغلق القلب على القلب؟. أية لوحة رسمتها يا أصابع الموت؟. أي طائر مد مخالبه في القلب منك يا بيروت؟. يا مواسم الحزن، لقد أطلت على قلوبنا، واعتصرتِ الرحيق من شفاه أطفالنا. هذه بيروت التي كانت. هذه بيروت التي صارت. يا قذائف الموت. أي بريء ستوقعين عليه قصاصا لا يستحقه؟).. يترافق هذا التعليق مع مشاهد وثائقية قاسية عن الحرب: المليشيات التي تعد نفسها للحرب. المسيرات والمظاهرات الصاخبة. مشاهد من القتال العنيف في شوارع بيروت.. والتعليق يدعو: (يا نار اخطئي هدفك). ثم صور ومشاهد المهجرين والمشردين، تقول إن من نجا من القتل وجد نفسه طي التهجير والتشريد من بيته، ومن مكانه، في مأساة إنسانية عظيمة، سوف تبقى ندبة على جبين الذاكرة. قطع، ثم ينتقل الفيلم إلى «مؤتمر القمة السداسي» الذي انعقد في الرياض في أكتوبر (تشرين الأول 1976م)، لتدارك الأوضاع وإنهاء الحرب.. نرى حضور الأمير فهد بن عبدالعزيز، ولي العهد ــ آنذاك، وندرك دوره المحوري في التوصل إلى عقد هذه القمة، ووقف إطلاق النار.. كما نرى مشاهد من المشاركة السعودية في «قوات الردع». تتوقف تلك الجولة من الحرب، ونذهب إلى مشاهد هادئة. عجائز يسيرون في شوارع بيروت الخالية من المارة، وسط الدمار. فيما تبدأ عملية إزاحة الركام، والشروع في الإعمار. وتبدأ عودة الحياة إلى بيروت.. فقد (آن للأنواء المحمومة أن تنحسر عن جبين لبنان).. وأن تنجو بيروت من محاولة اغتيالها.
عمد المخرج إلى توظيف كل ما يمكنه، من وسائل فنية، للخروج بفيلم تسجيلي وثائقي متميز، ففضلا عن الصورة المنسوجة بمونتاج متناغم، والتعليق الذي يلامس حافة الشعر، رقة وأسى، كما لعبت الموسيقى التصويرية التي صاغها الموسيقي عمار الشريعي دورا هاما في خلق الأجواء النفسية المناسبة، من توتر وقلق، ووجع وتفجع، وأمل واستبشار. هامسة في ضمائر الجميع «لا نريد حرب في لبنان بعد اليوم». بهذا الفيلم ولدت السينما السعودية التسجيلية على يد أول سينمائي سعودي، مؤسس أول استوديو تصوير سينمائي في المملكة العربية السعودية، المخرج عبدالله المحيسن، وهو من مواليد مكة المكرمة عام 1946. ودرس في لندن «الأكاديمية الملكية البريطانية للإنتاج» عام 1971، ثم درس الإخراج والتصوير والسيناريو السينمائي في «لندن فيلم سكول» عام 1974. وأسس «الشركة العالمية للإنتاج السينمائي بالرياض» عام 1975، وأخرج عدة أفلام تسجيلية: أولها عن مدينة الرياض بعنوان «تطوير الرياض» بتكليف من جهة حكومية عام 1976، ثم فيلمه «اغتيال مدينة» في عام 1977، وهو يعتبر الأول له فكرا ومضمونا وتنفيذا، والثالث فيلم «الإسلام جسر المستقبل» عام 1982. ثم فيلم «الصدمة» 1992م. إلى أن حقق في 2005 م فيلم «ظلال الصمت» أول فيلم سعودي روائي طويل.