-A +A
شوقي بزيع
ليس بإمكان أحد أن يحلق فوق الأوطان. حتى أولئك الذين اعتنقوا مبادئ وأفكارا إنسانية بحتة كان عليهم بالضرورة أن يلتحقوا بوطن ما، أو أن يحصلوا على جوازات للسفر أو بطاقات للهوية تثبت أنهم من سكان هذا الكوكب. الأشجار أقل حظا من الإنسان لأنها ثابتة في مكانها ولا تملك ما تفعله سوى التمايل أو الصراخ كلما عصفت بها الريح. الطيور وحدها تحلق فوق الأوطان، كما هو حال الريح والضوء والليل، رغم أن بدر شاكر السياب ألحقها بالوطن أيضا «الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام/ حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق». والإنسان حالة وسطى بين الأشجار والطيور. ولكنه أينما ذهب وحلق وأقام لا يملك شفاء من الحنين. ليس ثمة من أوطان ولدت بالمجان. للأوطان نطفتها وحالاتها الجنينية وقابلاتها ومخاضاتها الدموية، ولا بد من أثمان باهظة للولادة والتشكل والدور. تلك أمور بديهية، والاستقلال ليس منحة أو هدية مجانية تقدم على طبق من ذهب. هنالك ما يجب دفعه قبل أن تأخذ الهوية شكلها النهائي، وكيما ترفرف الأعلام فوق الرؤوس ويقف الجميع إجلالا لأناشيد بلدانهم الوطنية. قد يكون لبنان بهذا المعنى حالة فريدة بين الأوطان. فالآلاف الستة من السنين التي شكلت ظهيره الحضاري ــ وفق بعض أبنائه ــ لم تصل به إلى بر الأمان، ولم تفلح في منعه من التصدع عند كل امتحان للهوية أو الخيارات الحاسمة. والتنوع الاجتماعي والثقافي والديني الذي أعطاه الثراء والفرادة وجعله مختبرا دائما للحداثة والابتكار، هو نفسه الذي يؤسس له حروبا أهلية دورية ويدفع المختبر ذاك للانفجار بمن فيه كلما اختلت النسب والمقادير وأحجام القوة بين مكوناته. فأن تكون لبنانيا يعني أن عليك انتظار ما يقرره الآخرون لك على الخرائط المتبدلة لسياسات الدول. وأن تكون لبنانيا يعني أن تقيم على الشفير بين نعمة الطبيعة الأخاذة ونقمة الجغرافيا القائمة أبدا على شفير الزلازل. وأن تكون لبنانيا يعني أنك لست مواطنا في دولة، بل الطائفة والمذهب هما ملاذك ومحددا دورك ومصيرك الأخير. وأن تكون لبنانيا يعني أن تجد نفسك في كل أصقاع الأرض ولا تجدها فوق أرضك، وأن تكون حليفا وفيا للسفر والهجرات الإجبارية والطوعية. وأن تكون لبنانيا يعني أن يتكالب ضد جمالك اليوسفي الإخوة والأعداء وأن لا تخرج من بئر إلا لتسقط في بئر أخرى. وأن تكون لبنانيا، أخيرا، يعني أن عليك التقاط أنفاسك بين سيارتين مفخختين، والاحتفال بخلو الجرائد اليومية حتى الآن من إدراج اسمك في خانة المتوفين، أو بأنك ما زلت قادرا على كتابة هذه السطور.