«إنه لأمر مخجل أن يعيش المرء بعد موت أصدقائه» ــ يقول أحد الشعراء. فكيف إذا كان عليه أن يرثي كأم ثكلى كل واحد منهم وأن يشيعهم واحدا كلا إلى ضريحه. لقد سبق لبابلو بيكاسو أن قال بأن الرسام يعيش أكثر من الشاعر؛ لأن جسم الأول نباتي يستطيع أن ينتظر صاحبه خارج قاعة الرسم، فيما الثاني مصنوع جسمه من النيران التي ينتظرها الرماد بعدما ينفد الحطب. لست مخولا بالجزم فيما إذا كان رأي بيكاسو صحيحا، ولكن نظرة عجلى إلى بلاد العرب، كما بلدان العالم بأسره، ترينا السقوط المبكر والدوري لمعظم من عرفناهم من الرواد والمخضرمين وحتى الشبان. يأتي رحيل الشاعر اللبناني جوزف حرب قبل أيام قليلة مفاجئا وصادما ومثيرا للأسى، ككل رحيل مماثل للكتاب والمبدعين. صحيح أن الكثيرين كانوا يتهامسون حول مرض الشاعر الغامض، ولكن الصحيح أيضا أن تواريه شبه الدائم عن أنظار قرائه وعارفيه كان يترك ظلالا من الشك حول طبيعة مرضه وخطورته. حتى إذا أعلن نبأ رحيله وقع كالصاعقة على رؤوس الكثيرين الذين حسبوا أن قامته الفارعة وحضوره الآسر معدان لحياة أطول ومواسم عطاء إضافية. لا يختلف اثنان على أن صوت فيروز الاستثنائي أعطى لقصائد صاحب «مقص الحبر» المحكية هالة إضافية رسخت حضوره في وجدان الملايين، ولكن قراءة متأنية لنصوصه المحكية مثل «طلعلي البكي» و«أسوارة العروس» و«ورقو الأصفر شهر أيلول» تدفعنا إلى الاستنتاج بأنه واحد من الرواد الكبار للمحكية اللبنانية التي يتربع على قمتها ميشال طراد وسعيد عقل والأخوان رحباني وآخرون غيرهم. أما في الجانب الفصيح فقد بدا قاموسه الشعري ثريا وغنيا بالرموز ومستلا من عوالم الطبيعة وظلالها الريفية الوارفة. لا أعرف طبيعة الدافع الذي أملى على الشاعر كتابة «المحبرة» التي تناهز صفحاتها الألفين، وقصائد مماثلة ذات نفس ملحمي، ولكن الطول غير المسبوق للقصائد أرهق لغته، الرشيقة في الأصل، وأوقعها في الإفاضة والتكرار. في حين أن مقطوعاته القصيرة أظهرت بشكل أفضل مناوراته الإيقاعية الباذخة وقدرته على إصابة قلب المعنى «وأجمل ما كتبت رؤى/ سرت ومضا بغيم دمي/ وما وصلت إلى قلمي» ونقرأ له بالمحكية «الدنيي ورق/ والأرض عم بتدور مبرايي/ ونحنا قلام مكسرا/ والوقت محايي». قد تكون القصائد السياسية التي امتدح بها جوزف حرب رؤوس السلطة السورية هي هفوته الكبرى والمنزلق غير الضروري الذي أوقع نفسه فيه، خصوصا أن الرحبانيين وفيروز التي غنت نصوص الشاعر لم يرتضوا لأنفسهم مديح أي حاكم أو سلطة سياسية. ومع ذلك، فإن الإرث الإبداعي الهائل الذي خلفه الشاعر وراءه، والذي تعبق منه رائحة الأرض والالتزام بقضايا الأمة والإنسان، هو الذي يشدنا إلى شعره ويمهد له سبيل الإقامة في «مملكة الخبز والورد» والاستعارات التي لا تنضب.