-A +A
شوقي بزيع

التقدم المطرد الذي حققته الرواية على المستوى العالمي في العقود الأخيرة هو حقيقة واقعة لا ينكرها سوى المتعنتين والمكابرين. والإحصاءات المتعلقة بالكتب والأعمال الأكثر قراءة لدى دور النشر العالمية والعربية تشير إلى أن العدد المتعاظم لقراء الرواية يفوق بأضعاف عدد المقبلين على قراءة الشعر، وهو أمر ينسحب على الترجمة أيضا، حيث إن هذه الدور باتت تؤثر ترجمة الروايات على ما سواها من أعمال. ومنذ أن وسم الناقد المصري جابر عصفور زمننا الراهن بأنه زمن الرواية، عمد العديد من الشعراء العرب إلى الانصراف لكتابة الروايات والسير الذاتية، أو لإيلاء الرواية جزءا من اهتمامهم طمعا في الرواج والحصول على فرص أوسع للترجمة إلى لغات أخرى. لا يتسع المقام هنا لشرح الأسباب والظروف التي أحلت الرواية في صدارة اهتمامات القراء، ولكن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أن هذا الفن يتيح للقارئ الاستقالة من همومه وأزماته الشخصية للإقامة في حيوات أخرى موازية. ولا يمنع من الإشارة أيضا إلى أن لغة الرواية هي أكثر سهولة وأقل تعقيدا وكثافة من لغة الشعر. والبشرية التي تعبت من حروبها الدموية المروعة تبدو وكأنها تحتاج إلى حكائين ورواة ولغة سهلة للسرد أكثر من حاجتها ــ راهنا على الأقل ــ إلى إرهاق النفس بلغة الشعر المليئة بالتوريات. في كتابه القيم «الوهم والواقع» يشير الناقد الإنكليزي كريستوفر كودويل إلى أن التداعيات العاطفية للرواية لا تلتحم بالكلمات، بل بالواقع الزائف الذي ترمز إليه «ولذا فإن الإيقاع والتكلف والترصيع هي أمور تضر بالرواية التي تسهل ترجمتها؛ لأنها ليست مؤلفة من كلمات، بل من مشاهد وحوادث وأشخاص». في حين أن الشعر ــ وفق مالارميه ــ يكتب بالكلمات وليس بالأفكار. ولأن الأحداث والأبطال في الرواية هما الأصل، فمن الصعب أن نعود إلى قراءتها مرة ثانية، إلا في حالات نادرة توفر فيها الفانتازيا التخييلية للقارئ متعة بالغة، كما هو حال «ألف ليلة وليلة» و«دون كيشوت» وقلة من الروايات. لا تكف لغة الشعر ــ بالمقابل ــ عن حثنا على قراءتها. ولا نكف عن إبداء دهشتنا البالغة إزاء استعارة لامرئ القيس أو تشبيه للمتنبي أو حكمة لأبي العلاء. وهي دهشة لا يقصمها الزمن ولا يتلفها التكرار؛ لأننا سنظل إلى ما لا نهاية مبهورين بتلك الكشوف واللمع والمزاوجات المباغتة بين الكلمات. وهذه الميزة للشعر ليست تفضيلا له على الرواية بقدر ما هي تأكيد جديد على مكانته ودوره وفرادة موقعه بين الفنون.