-A +A
محمد بن علي الهرفي

ثقافة التسامح والاعتدال من أكبر اهتمامات خادم الحرمين الشريفين بل إنها كانت من ضمن اهتماماته الواضحة عندما كان وليا للعهد وقد ظهر ذلك جليا عندما أمر بافتتاح مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني وأيضا في طرح عدد من الموضوعات ذات العلاقة بالتسامح والوسطية في حوارات الجنادرية، وجاء افتتاح مركز الملك عبدالله لحوار أتباع الأديان في فيينا مواكبا لهذا النوع من الاهتمام ولكن على المستوى العالمي هذه المرة وذلك لمحاولة إيصال صوت الإسلام الصحيح إلى كافة أنحاء الدنيا انطلاقا من مسؤولية بلادنا عن نشر الإسلام باعتبارها قبلته الأولى وموطن رسالته ونبوته.

المؤتمرات التي أقامتها رابطة العالم الإسلامي المتعلقة بنشر ثقافة التسامح والوسطية حظيت برعاية خادم الحرمين الشريفين بل إنه دعا إلى عقد مؤتمر للتضامن الإسلامي في مكة المكرمة وذلك يومي 26 و27 من شهر رمضان من عام 1433هـ عندما رأى أن هناك مخاطر تواجه الأمة المسلمة قد تقود إلى تجزئتها، وفي تلك الأيام اجتمع عدد كبير من علماء المسلمين تحت مظلة الرابطة لمواجهة تلك المخاطر، وقبل أيام أقامت الرابطة مؤتمرا تحت عنوان: مؤتمر العالم الإسلامي المشكلات والحلول، ولأن العالم الإسلامي مليء بالمشاكل ولأن حلولها من أوجب الواجبات خاصة من وجهة نظر بلادنا فقد حظي هذا المؤتمر باهتمام خادم الحرمين فوجه إليه خطابا دعا فيه الحاضرين إلى التنبه إلى المشاكل التي تحيط بالمسلمين وأكد على رؤية المملكة تجاه مشاكل المسلمين في العالم كله، وكان مما قاله للمؤتمرين: (ولا يفوتنا في هذا المقام بأن ننوه بأن رؤية المملكة تقوم على الشمولية في المسؤولية نحو تحقيق التضامن فلا تناط هذه المهمة بالحكومات والقادة السياسيين وحدهم بل لابد من تعاون المنظمات والهيئات غير الحكومية وكذلك العلماء ورجال الفكر والدعوة والإعلام وكل ذي تأثير في الرأي العام، وإن الأمر يحتاج إلى إخلاص النيات وتنسيق الجهود في إعداد البرامج والمشاريع المناسبة وتهيئة الشعوب إعلاميا وثقافيا). العالم الإسلامي والعربي يموج بالأحداث الجسام والمشاكل العظام؛ فإسرائيل تتربص بفلسطين وتعمل على ابتلاعها والوضع العربي الراهن يساعدها على تحقيق مآربها، وإيران هي الأخرى لها أطماع في منطقتنا لايمكن تجاهلها على الإطلاق؛ وهي تخطط لتحقيق أطماعها بوسائل كثيرة ومتنوعة، ولا بد من مواجهة هذه الأطماع بطرق عملية ونافعة.
وإذا ما التفتنا إلى أوضاع المسلمين خاصة الأقليات منهم وجدنا أن التطرف النصراني أحيانا والبوذي أحيانا أخرى يفتك بهم بصورة مأساوية؛ فالأقلية الروهنجية في بورما تعاني عمليات إبادة وتهجير غير مسبوقة، وكذلك يعاني المسلمون في أفريقيا الوسطى من عمليات قتل وتهجير وتحت سمع العالم وبصره ويقوم بها متطرفون متعصبون من النصارى في تلك البلاد، وفي نيجيريا نشاهد تطرفا مماثلا من نصارى ومسلمين نتج عنه آلاف القتلى والجرحى والمشردين، وهذا القتل الذي يدفع إليه التطرف ويغذيه الحقد الأعمى لابد من وقفة جادة لإعادة فاعليه إلى الصواب، لأن السكوت عنه سيجعل العالم كله يعيش في حالة اضطراب وقلق وخوف من المستقبل المجهول الذي يقوده التطرف والعنف والجهل. كما أن ممارسة التطرف من بعض المسلمين يشوه صورة الإسلام والمسلمين ويعطي صورة غير صحيحة عن الإسلام العظيم خاصة لأولئك الذين يربطون ما بين الإسلام وما بين تصرفات بعض المسلمين.
هذا الواقع هو الذي جعل خادم الحرمين الشريفين يؤكد مرارا على أهمية قيم التسامح والوسطية، وعلى أن هذه القيم يجب أن تكون جزءا من ثقافة الإنسان - مهما كان دينه -، كما جعله يؤكد كذلك على المسؤولية المشتركة ما بين الدول والأفراد وعلى تنوع ثقافاتهم وتخصصاتهم في تحقيق ونشر ثقافة الوسطية والاعتدال وكذلك نبذ التطرف والإرهاب والعمل على تخليص العالم كله منه، وجاء التأكيد - أيضا - على أهمية دور الإعلام في تحقيق التسامح ما بين الشعوب، وكلنا ندرك أهمية الإعلام وأهمية أن يكون متوازنا وحكيما في تناوله لكل القضايا المجتمعية والسياسية وعدم الانحياز الباطل لأفراد أو مجموعات أو تيارات فكرية لأن ذلك يقود إلى التطرف ويقضي على ثقافة التسامح ومنهج الاعتدال الذي تسعى بلادنا لتحقيقه.
رابطة العالم الإسلامي قامت بدور جيد في هذا الاتجاه عبر أكثر من مؤتمر عقدته في مكة المكرمة وفي غيرها، لكن واقع المسلمين يحتاج من الرابطة إلى تحرك أكثر وأوسع؛ فواقع المسلمين يزداد سوءا. وواقع التطرف يزداد اتساعا، وكل ذلك يتطلب عملا جماعيا يتوافق وحاجة المسلمين كما يتوافق مع طموح قيادة بلدنا ومسؤولياتها الكبيرة.
ولأن مسؤولية محاربة التطرف ونشر ثقافة الاعتدال ليست محصورة في جهة واحدة ولا في دولة واحدة فإننا في بلدنا نتطلع إلى قيام كل الجهات بدورها خاصة وزارتي التعليم العالي والتربية والتعليم وكذلك وزارة الشؤون الإسلامية ووزارة الإعلام، ثم كل قادر على فعل شيء في هذا السبيل.
ديننا الإسلامي الحنيف قام على منهج الاعتدال في كل شيء، وكان التسامح جزءا من منهجه، كما كان من أهم أسباب انتشاره، وعلى أبنائه اليوم أن يحققوا في أنفسهم وواقعهم هذا المنهج الأصيل ليفهم العالم كله عظمة هذا الدين وأن الإرهاب لا يمت إليه بصلة..