قد لا يخطر سؤال كهذا في بال ملايين العرب الذين يشيحون بوجوههم عن كل ما يتصل بالشأن الثقافي، أو الذين يرون في الثقافة ترفا زائدا وهم يركضون خلف رغيف الخبز وفرص العمل الضائعة. والسؤال نفسه لا يعني الكثير للمدمنين على القراءة من غير الممسوسين بصعقة الإبداع ونيرانه اللاهبة. ولكن مثل هذا السؤال لا بد وأن يخطر في بال معظم الشعراء والكتاب الذين يزاوجون بين قراءة الكتب وبين تأليفها، حيث إن المقارنة تفرض نفسها، عن قصد أو غير قصد، كلما فرغ مبدع ما من كتابة قصيدة متميزة أو قراءة كتاب استثنائي. للكتابة، وبخاصة الابداعية منها، متعة هائلة تتولد عن شعور الكاتب بقدرته على الخلق والابتكار. فهنا تخرج الذات المتعطشة للتحقق من شرنقتها لتترك في العالم أثرها الذي يعتقد الكاتب بأنه لا يمحى، حتى ولو لم يكن الأثر المتروك جديرا بالخلود. وليست المقارنة بين عملية الولادة عند المرأة والكتابة عند المبدع ببعيدة عن الصواب، حيث لا يعادل فرح الأم بمولودها الجديد سوى فرح الكاتب بإنجاز عمله الفني الجديد الذي ما إن يتم إنجازه حتى يصبح له قدره الخاص وينفصل عن صاحبه انفصال الأم عن وليدها. على أن الكتابة ليست متعة خالصة وحسب. إنها، بالمقابل، عراك مع "الشياطين" فوق ساحة آهلة بالآلام والكدمات. وحيث الكلمات الحرون تبالغ في تمنعها يلامس الكاتب تخوم المرارات ويستسلم كالخرقة البالية لرياح الفراغ العنين. القراءة، بالمقابل، هي المتعة الخالصة من كل شائبة، حيث كل كتاب حديقة وروضة غناء يحلو للمرء التجول في جنباتها ــ وفق أبي عثمان الجاحظ. ليس علينا هنا سوى الاسترخاء في السرير أو فوق مقعد فاره والانتقال المجازي عبر الأماكن والأزمنة إلى حيث يريد لنا خيال المؤلف أن نحط الرحال. يتيح لنا الروائي أن نغادر شقاء حيواتنا الأصلية ومتاعبها لكي نتماهى مع حيوات موازية تصارع بالنيابة عنا أقدارها العاتية. وتتيح لنا قراءة الشعر أن نتلذذ بكشوف الشاعر الجمالية وباستعاراته المدهشة التي تأتينا دون عناء على طبق الكلمات الشهي. وكذلك الأمر بالنسبة للنصوص المسرحية والتاريخية والفكرية، حيث ذوب البشر السابقون أنفسهم من أجل أن يرفدونا بمتعة المعرفة التي رأى فيها الرواقيون رأس المتع الإنسانية وذروتها. ليس صدفة، تبعا لذلك، أن يتخيل بورخيس الجنة على شكل مكتبة هائلة الاتساع. ولا أستطيع أن أفسر لجوء الصديق هاشم الجحدلي إلى عرض غلافات الكتب المتميزة، أو الصادرة حديثا، إلا من قبيل الابتهاج العارم بتلك اللقى المعرفية الثمينة التي يريد الشاعر تقاسم متعتها مع أصدقائه الكثر. وإذا كانت القراءة والكتابة تجتمعان في متعة واحدة، فإنهما تلتقيان في سمة إضافية هي كرم النفس الذي لا بد من توفره في ذات كل مبدع حقيقي.