لم يكن أمرا بغير دلالة خروج الشعب الأوكراني قبل أيام للاحتفال بشاعره القومي الأكبر تاراس شفتشنكو. صحيح إن مبرر الاحتفالات العلني كان مرور مئتي عام على رحيل الشاعر، ولكن المسألة لم تكن لتأخذ هذا الطابع الحماسي والعاطفي لو كانت الذكرى قد حلت في ظروف سياسية مغايرة. فاللغة الأوكرانية التي نشأت في أواخر القرن السادس عشر كان قد تم طمسها من قبل الروس الذين فرضوا بعد ذلك لغتهم الأم على الأوكرانيين. وقد عكست أشعار شفتشنكو المكتوبة بالأوكرانية نزوع البلاد إلى التحرر من النير الروسي وصياغة التطلع الأوكراني إلى امتلاك الهوية وتثبيتها عبر أكثر الفنون صلة بروح الجماعة وتطلعاتها. لذلك لم يجد الأوكرانيون ما يواجهون به مصدر التهديد الروسي، وفي ظل التفاوت الهائل في موازين القوى العسكرية، سوى التحصن بالرموز الأبرز لهوية البلاد المهددة. هذه الحالة بالطبع ليست فريدة من نوعها، بل ثمة شواهد كثيرة تصب في سياق الربط الوثيق بين اللغة والهوية. ولنتذكر هنا كيف أن كتاب طه حسين الشهير الذي شكك بصحة الشعر الجاهلي قد اعتبر مسا بالثوابت القومية، رغم أن سلم القيم الجاهلية قد جرى ضربه من قبل الإسلام. هكذا بدت اللغة، أبعد من كل خلاف عقائدي، إحدى المكونات الأوثق لتاريخ الأمة وحضورها في العالم. فالأرض «تورث كاللغة» ــ وفق محمود درويش، في إشارة لافتة إلى القيمة الاستثنائية لهذه الأخيرة. كما أن أشعار صاحب «الجدارية» لم تعد تكتسب قيمتها من بنيتها الجمالية العالية، بل أيضا من كونها جزءا لا يتجزأ من «المقدس» الفلسطيني الذي يواجه بواسطته مشروع الاقتلاع. ليس غريبا أن تسمى لغات العالم بأسماء شعرائها الكبار، فيطلق على الروسية «لغة بوشكين»، وعلى الإيطالية «لغة دانتي»، وعلى الألمانية «لغة غوته»، وعلى الإنكليزية «لغة شكسبير»، وعلى العربية «لغة المتنبي». وليس غريبا كذلك أن يتسلح الأوكرانيون بطاقة اللهب الإبداعي التي يمتلكها شاعرهم القومي شفتشنكو، الذي تشاء الصدف أن لا يفصله سوى حرف واحد عن الشاعر الروسي الشهير يفغيني يفتشنكو. وهذه القيمة المضافة للشعر يعكسها قول إليوت «إنه لأسهل أن نفكر عبر لغة من اللغات من أن نشعر بها. فما من فن يتسم بالقومية اتساما عنيدا كما هو الحال مع الشعر».