سؤال مجرد
العالمة النووية السعودية د. عبير الحربي
محمد علي الحربي
في بيتنا القديم في إحدى حارات مدينة «أبها»، وفي منتصف التسعينيات الهجرية، جاء لنا أبي من مستشفى أبها العام بالبشارة: «أخيرا جئت لكم بأخت»، ما زلت أتذكر فرحتنا العارمة بها، كنا أربعة إخوة «عادل، محمد، إبراهيم، وأحمد»، وكنا نتلهف جميعا لأن يكون المولود القادم الذي تحمل به أمنا فتاة تكسر خشونة «التماسيح الأربعة»، وتضيف لمسة ناعمة إلى سجل العائلة الذكوري.
جاءت الفتاة، وقررنا جميعا أن نسميها «عبير»، وكنا نكبر معا، واستمر بعدها إنتاج العائلة الذكوري وانضم إلينا «ناصر وغازي»، قبل أن تنضم الأنثى الوحيدة بعدها حتى اليوم «غادة»، ثم «خالد»، وبعده بسنوات جاء «جمال، سليمان، طلال، نايف، وعبدالله».
كبرت «عبير» بين إخوتها الذكور، ومع كل شقاوة الأولاد، كانت البنت الوحيدة وقتها تجاريهم بقوتها وشقاوتها واتقاد شعلة الذكاء في عينيها الواسعتين، لم تكن تجذبها ألعاب الفتيات وعرائسهن كقريناتها، وكان رأسها يضم «ضربات وفقوع» تشبه تلك التي في رؤوسنا نحن إخوتها الذكور «وكأنما كانت تخوض تحديها الخاص مع مجتمعها الذكوري الصغير، وهو الأمر ظهر جليا واضحا في شخصيتها فيما بعد في مجتمعها الكبير».
نشأت «عبير» في كنف أب متعلم ومثقف وشاعر، هو الباحث والمؤرخ علي بن إبراهيم الحربي، مؤلف الموسوعة الجغرافية للبلاد العربية السعودية، وأم استثنائية خارقة هي مريم بنت عائل الحربي، والتي كرمت في العام 1417هـ بجائزة الأم المثالية نظير رحلة كفاحها في قهر الأمية حتى حصولها على الدرجة الجامعية بامتياز وتربية جيل من الأبناء المتعلمين تعليما عاليا، وهذان الأبوان شكلا دعما لا محدودا لـ«عبير» ولإخوتها.
أنجزت «عبير» كل مراحل دراستها بتفوق وبتقدير امتياز، وقررت التخصص في الفيزياء، وأنهت دراستها الجامعية بامتياز أيضا، وعينت معيدة في قسم الفيزياء، وتخصصت في الفيزياء النووية، وحصلت على درجة الماجستير بامتياز في مبحث هام لتقدير عمر الآثار باستخدام التقنيات النووية، أحدث نقلة تاريخية في هذا المجال، ثم حصلت بعدها على شهادة الدكتوراه في فلسفة العلوم تخصص الفيزياء النووية وفيزياء المفاعلات في عام 2007، وعينت أستاذا مساعدا بقسم الفيزياء بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن بالرياض ووكيلة لعمادة التطوير وتنمية المهارات ثم عميدة لها، ورئيسة اللجنة الدائمة للوقاية من الإشعاعات بالجامعة، وهي لا تزال في الثلاثينات من عمرها.
رشحت الدكتورة عبير لمنحة فولبرايت من الحكومة الأمريكية للزمالة في العلوم للعمل كأستاذ زائر لمدة عامين في جامعة تكساس A&M الأمريكية، وأشرفت على رسالتي ماجستير في نفس الجامعة، ونشرت العديد من الأبحاث العلمية الأصيلة في مجلات عالمية متميزة في عدد من مجالات الأبحاث النووية، كإنتاج واستخدام النظائر الطبية المشعة لتشخيص وعلاج الأورام وأمراض السرطان، والفيزياء الفلكية النووية، والتفاعلات النووية لإنتاج النظائر المشعة والفيزياء الإشعاعية، وساهمت الدكتورة عبير بدعوة من قبل شركة إنتيك INTECH العالمية للأبحاث العلمية والنشر للمشاركة في تأليف كتاب بعنوان «النظائر المشعة.. تطبيقات في العلوم الطبية الحيوية»، وحصلت على عدد من الجوائز العلمية والمنح، ومنها جائزة المرأة المتميزة في العلوم على مستوى العالم، جائزة الأمير خالد الفيصل للتميز العلمي، وجائزة الباحث المتميز عن إنشاء مركز أبحاث النظائر الطبية المشعة في مركز السيليكترون الأمريكية، وسجلت لثلاث سنوات متتالية في فهرسة المشاهير في العلوم والمشاهير في العالم.
كانت شخصية «الدكتورة عبير الحربي» مفتاح نجاحها وسر تفوقها، حتى كرمتها وزارة الخارجية الأمريكية كأول عالمة سعودية ضمن برنامج نساء متميزات في العلوم من أصل 11 امرأة من العالمات البارزات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لإنجازاتهن العلمية المتميزة، ولكونهن نماذج يحتذى بها، إضافة لكونهن مصدر إلهام لغيرهن للتشجيع على دراسة العلوم وممارسة المهن العلمية المختلفة.
أكتب عنها اليوم بفخر واعتزاز وإجلال وتقدير، ليس لأنها شقيقتي الصغرى، التي رأيتها تكبر وتتغلب على كل معوقات مجتمعها الذكوري أمام عيني وتبرز لتكون مثالا يحتذى وحسب، بل لأنها نموذج مهم وملهم وخلاق وكبير، لنساء وطني الكبير بقيادته وبإنسانه، والذي طالما أنجب ودعم مثيلاتها من نساء كن علامات فارقات في مسيرة البشرية، وأسهمن في صناعة التاريخ، ولم يخضعن للرؤى الضيقة التي كانت ولا تزال تريد لهن أن يعشن أسرى لفكر منغلق لا يتجاوز حدود جدران المنزل الأربعة وطاولة المطبخ.
أكتب عن الدكتورة عبير بنت علي الحربي، التي كنت أراها في يوم من الأيام أختي الصغرى، وأراها اليوم أختي الكبرى، وأرى فيها اليوم ملامح كل نساء وطني العظيم.
العالمة النووية السعودية د. عبير الحربي
محمد علي الحربي
في بيتنا القديم في إحدى حارات مدينة «أبها»، وفي منتصف التسعينيات الهجرية، جاء لنا أبي من مستشفى أبها العام بالبشارة: «أخيرا جئت لكم بأخت»، ما زلت أتذكر فرحتنا العارمة بها، كنا أربعة إخوة «عادل، محمد، إبراهيم، وأحمد»، وكنا نتلهف جميعا لأن يكون المولود القادم الذي تحمل به أمنا فتاة تكسر خشونة «التماسيح الأربعة»، وتضيف لمسة ناعمة إلى سجل العائلة الذكوري.
جاءت الفتاة، وقررنا جميعا أن نسميها «عبير»، وكنا نكبر معا، واستمر بعدها إنتاج العائلة الذكوري وانضم إلينا «ناصر وغازي»، قبل أن تنضم الأنثى الوحيدة بعدها حتى اليوم «غادة»، ثم «خالد»، وبعده بسنوات جاء «جمال، سليمان، طلال، نايف، وعبدالله».
كبرت «عبير» بين إخوتها الذكور، ومع كل شقاوة الأولاد، كانت البنت الوحيدة وقتها تجاريهم بقوتها وشقاوتها واتقاد شعلة الذكاء في عينيها الواسعتين، لم تكن تجذبها ألعاب الفتيات وعرائسهن كقريناتها، وكان رأسها يضم «ضربات وفقوع» تشبه تلك التي في رؤوسنا نحن إخوتها الذكور «وكأنما كانت تخوض تحديها الخاص مع مجتمعها الذكوري الصغير، وهو الأمر ظهر جليا واضحا في شخصيتها فيما بعد في مجتمعها الكبير».
نشأت «عبير» في كنف أب متعلم ومثقف وشاعر، هو الباحث والمؤرخ علي بن إبراهيم الحربي، مؤلف الموسوعة الجغرافية للبلاد العربية السعودية، وأم استثنائية خارقة هي مريم بنت عائل الحربي، والتي كرمت في العام 1417هـ بجائزة الأم المثالية نظير رحلة كفاحها في قهر الأمية حتى حصولها على الدرجة الجامعية بامتياز وتربية جيل من الأبناء المتعلمين تعليما عاليا، وهذان الأبوان شكلا دعما لا محدودا لـ«عبير» ولإخوتها.
أنجزت «عبير» كل مراحل دراستها بتفوق وبتقدير امتياز، وقررت التخصص في الفيزياء، وأنهت دراستها الجامعية بامتياز أيضا، وعينت معيدة في قسم الفيزياء، وتخصصت في الفيزياء النووية، وحصلت على درجة الماجستير بامتياز في مبحث هام لتقدير عمر الآثار باستخدام التقنيات النووية، أحدث نقلة تاريخية في هذا المجال، ثم حصلت بعدها على شهادة الدكتوراه في فلسفة العلوم تخصص الفيزياء النووية وفيزياء المفاعلات في عام 2007، وعينت أستاذا مساعدا بقسم الفيزياء بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن بالرياض ووكيلة لعمادة التطوير وتنمية المهارات ثم عميدة لها، ورئيسة اللجنة الدائمة للوقاية من الإشعاعات بالجامعة، وهي لا تزال في الثلاثينات من عمرها.
رشحت الدكتورة عبير لمنحة فولبرايت من الحكومة الأمريكية للزمالة في العلوم للعمل كأستاذ زائر لمدة عامين في جامعة تكساس A&M الأمريكية، وأشرفت على رسالتي ماجستير في نفس الجامعة، ونشرت العديد من الأبحاث العلمية الأصيلة في مجلات عالمية متميزة في عدد من مجالات الأبحاث النووية، كإنتاج واستخدام النظائر الطبية المشعة لتشخيص وعلاج الأورام وأمراض السرطان، والفيزياء الفلكية النووية، والتفاعلات النووية لإنتاج النظائر المشعة والفيزياء الإشعاعية، وساهمت الدكتورة عبير بدعوة من قبل شركة إنتيك INTECH العالمية للأبحاث العلمية والنشر للمشاركة في تأليف كتاب بعنوان «النظائر المشعة.. تطبيقات في العلوم الطبية الحيوية»، وحصلت على عدد من الجوائز العلمية والمنح، ومنها جائزة المرأة المتميزة في العلوم على مستوى العالم، جائزة الأمير خالد الفيصل للتميز العلمي، وجائزة الباحث المتميز عن إنشاء مركز أبحاث النظائر الطبية المشعة في مركز السيليكترون الأمريكية، وسجلت لثلاث سنوات متتالية في فهرسة المشاهير في العلوم والمشاهير في العالم.
كانت شخصية «الدكتورة عبير الحربي» مفتاح نجاحها وسر تفوقها، حتى كرمتها وزارة الخارجية الأمريكية كأول عالمة سعودية ضمن برنامج نساء متميزات في العلوم من أصل 11 امرأة من العالمات البارزات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لإنجازاتهن العلمية المتميزة، ولكونهن نماذج يحتذى بها، إضافة لكونهن مصدر إلهام لغيرهن للتشجيع على دراسة العلوم وممارسة المهن العلمية المختلفة.
أكتب عنها اليوم بفخر واعتزاز وإجلال وتقدير، ليس لأنها شقيقتي الصغرى، التي رأيتها تكبر وتتغلب على كل معوقات مجتمعها الذكوري أمام عيني وتبرز لتكون مثالا يحتذى وحسب، بل لأنها نموذج مهم وملهم وخلاق وكبير، لنساء وطني الكبير بقيادته وبإنسانه، والذي طالما أنجب ودعم مثيلاتها من نساء كن علامات فارقات في مسيرة البشرية، وأسهمن في صناعة التاريخ، ولم يخضعن للرؤى الضيقة التي كانت ولا تزال تريد لهن أن يعشن أسرى لفكر منغلق لا يتجاوز حدود جدران المنزل الأربعة وطاولة المطبخ.
أكتب عن الدكتورة عبير بنت علي الحربي، التي كنت أراها في يوم من الأيام أختي الصغرى، وأراها اليوم أختي الكبرى، وأرى فيها اليوم ملامح كل نساء وطني العظيم.